دمشق التي تسير السماء على طرقاتها حافية
دمشق التي تسير السماء على طرقاتها حافية .. الشام سر العروبة الباقي ومهوى قلوب القديسين والشعراء
دمشق ..
لم تنل مدينة على وجه المعمورة كما نالت دمشق عراقة وقداسة وتجذراً وتجدداً وسؤدداً. كلهم مروا عليها ومضوا وبقيت هي، كانت دمشق منذ بدء الخليقة وستبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هي عنوان عزة وفخار لأهلها، عنوان ذل وصغار لأعدائها.
منها خرجت رايات بني أمية البيضاء لتُزرَع في سهول الصين شرقاً وجبال البيرينيه غرباً، كل عز وكل شرف للعرب عنوانه دمشق، إذا سألت عن العروبة فاسأل عنها فهي قلبها النابض، وإذا سألت عن الإسلام فاسأل من دمشق فهي سره ومستقره ومنبعه الذي لا ينضب، كلهم جاؤوها غزاة معتدين وتحولوا فيها إلى عشاق وشعراء وقديسين ولم يفارقوها، إنها حبيبة معاوية بن أبي سفيان ومعشوقة الوليد بن عبد الملك وشعلة صلاح الدين الأيوبي التي لم تنطفئ وسيف خالد وترس الظاهر بيبرس.
لم يعرف العرب نصراً إلا وكانت دمشق منبعه، باركها الله سبحانه وحنّ إليها رسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم ودعا لها بالبركة، تغنى بها الشعراء على مدى القرون وأبدعوا وكيف لا يبدعون وهي ملهمتهم التي لا تعادلها ملهمة من مدن الأرض، فالشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري عندما ضاقت عليه الدنيا بما رُحبت لم يجد إلاها موطناً وسبيلاً وقبراً تغزل بها كما لم يفعل غيره من الشعراء:
شممت تربك لا زلفى ولا ملقا
وسرت قصدك لا خباً ولا مذقا
وما وجدت إلى لقياك منعطفاً
إلا إليك وما ألفيت مفترقا
وكان قلبي إلى رؤياك باصرتي
حتى اتهمت عليك العين والحدقا
وسرت قصدك لا كالمشتهي بلداً
لكن كمن يتشهى وجه من عشقا
وقبله أهدى أمير الشعراء أحمد شوقي عديد القصائد التي تعتبر من عيون الشعر العربي بالقرن العشرين لدمشق :
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
بنو أمية للأنباء ما فتحوا
وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
كانوا ملوكاً سرير الشرق تحتهم
فهل سألت سرير الغرب ما كانوا
آمنت بالله واستثنيت جنته دمشق روح وجنات ريحان
جرى وصفق يلقانا بها بردى كما تلقّاك دون الخلد رضوان
أما شاعر لبنان الكبير سعيد عقل فقد تخلّد اسمه وشعره عندما تغزل بدمشق :
شآم ياذا السيف لم يغب يا كلام المجد في الكتب
قبلك التاريخ في ظلمة بعدك استولى على الشهب
شآم أهلوك إذا هم على نوب قلبي على نوب
وغنت فيروز من كلماته قصيدة أخرى لا تقل روعة ورقة:
سائليني حيث عطرت السلام كيف غار الورد واعتلّ الخزام
وأنا لو رحت استرضي الشذا لانثنى لبنان عطراً يا شآم
ظمئ الشرق فيا شام اسكبي واملئي الكأس له حتى الجَمام
أهلك التاريخ من فضلتهم ذكرهم في عروة الدهر وسام
أمويون وإن ضقت بهم ألحقوا الدنيا ببستان هشام
عندما جاء الشاعر العربي الراحل رشيد سليم الخوري إلى دمشق بعد عقود غربة وراء الأطلسي تنفس هواء الشام وتعطر بمائها وكأنه لم يكن يصدق أن قدميه تطأان تراب الشام فقال :
حتّامَ تحسبها أضغاث أحلام سبّح لربك وانحر أنت بالشام
هذي عيوني وجناتي وفاكهتي فاملأ يديك وبرّد قلبك الظامي
أما الشاعر الراحل محمد عمران فقد قال:
تبارك زيتون الشآم وتينها إذا تقسم الدنيا فهن يمينها
وقد أتعب شاعر العرب الأكبر في النصف الثاني من القرن العشرين محمود درويش كل الشعراء الذين سيجيئون من بعده إذا أرادوا الغزل بدمشق فالمقارنة بين ما قاله وما سيقولونه ستكون ظالمة لهم :
في دمشق تطير الحمامات خلف سياج الحرير
اثنتين اثنتين
في دمشق
أرى لغتي كلها على حبة القمح
مكتوبة بإبرة أنثى ينقحها حجر الرافدين
في دمشق
تُطرَّز أسماء خيل العرب
من الجاهلية حتى القيامة أو بعدها بخيوط الذهب
في دمشق
تسير السماء على الطرقات القديمةْ
حافية حافيةْ
فما حاجة الشعراء للوحي والوزن والقافيةْ
في دمشق
ينام الغريب على ظله واقفاً
مثل مئذنة في سرير الأبد
لا يحن إلى أحد أو بلد
في دمشق
يواصل فعل المضارع أشغاله الأمويةْ
نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس في أمسنا
نحن والأبدية سكان هذا البلد
كل أولئك الشعراء الذين ذكرنا والذين لم نذكر لم يكونوا أبناء دمشق لم يولدوا فيها لذا فإن حكاية الابن مع أمه حكاية مختلفة ولها خصوصية فهي حكاية نزار قباني مع محبوبته الأغلى .. دمشق :
فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما من امرأة
أحببت بعدك إلا خلتها كذبا
يا شام أين هما عينا معاوية
وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
ويقول أيضاً مخاطباً محبوبته التي هجرها بجسده وظلت ساكنة روحه :
لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا
وقد بكينا وبللنا المناديلا
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا
قتيلكم بالهوى ما زال مقتولا
يا شام يا شامة الدنيا ووردتها
يا من بحسنك أوجعتُ الأزاميلا
ويا حصاناً تخلى عن أعنته
وراح يفتح معلوماً ومجهولاً
وددت لو زرعوني فيك مئذنة
أو علّقوني على الأبواب قنديلا
يا شام إن كنت أخفي ما أكابده
فأجمل الحب حب بعد ما قيلا
وفي قصيدة أخرى يقول :
هذي دمشق وهذي الكأس والراح
إني أحب وبعض الحب ذبّاح
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواح
هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي
فكيف أوضح هل في العشق إيضاح؟
صدقت يا نزار لا يحتاج العشق إلى إيضاح وخاصة إذا كان لمدينة تعجز كل الكلمات عن وصف ما يعتمل في الروح والفؤاد تجاهها.
كانت تفتخر على الدنيا وستبقى تفتخر على الدنيا هي القاعدة وكلنا استثناء.
ردود على "دمشق التي تسير السماء على طرقاتها حافية"
أترك تعليقا