كتاب نهاية امريكا واسرائيل(تفسير سورة الدخان)

بتاريخ 4:20 م بواسطة ADMIN


( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ ، لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)


( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ ، فِي هَذَا الْقُرْءَانِ ، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
( الإسراء )



فإنما يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون

تبدأ سورة الدخان بتعظيم شأن القرآن الكريم ، وتعظيم شأن الليلة التي أُنزل فيها ، وتركّز السورة ، على الإنذار دون البشرى ، حيث قال سبحانه في إرسال محمد عليه الصلاة والسلام ( يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45 الأحزاب ) . ويؤكد سبحانه أنه أرسله ، منذرا للبشر من قبل أن يحل بهم العقاب ، رحمة منه بعباده . والعقاب الذي تأتي على خبره الآيات وتحذّر منه ، هو البطشة الكبرى ، التي لم تُحدّد ماهيتها هنا ، ونذير هذه البطشة ، الذي سيسبقها بقليل ، هو الدخان ، فليرتقبه الناس ، فإن ظهر وعاينوه فليعتبروا ، وليحذروا ، وليعودوا عما هم عليهم من الشك والتشكيك في أمر ربهم ، واللعب في أمر دينهم ، والطعن في رسولهم الكريم ، الذي بُعث إليهم بشيرا ونذيرا ، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا ، فليرتقبوا البطشة الكبرى . وقد ظهر الدخان الموصوف في هذه السورة ، في عاصمة أحد الأقطار العربية ، فاقرأ معنا هذا الفصل والفصول التي تليه ، لتعرف كيف فُسّرت هذه النبوءة على أرض الواقع ، ولتعرف من هم الموعودين بالبطشة الكبرى قريبا ، بعد إصرارهم على ما هم عليه ، من الكفر والفسوق والعصيان ، بالرغم من غشيان الدخان لهم ، بنفس الصفة ، التي أخبرت عنها الآيات .

تعريف بسورة الدخان :
" مكية ، كما روي عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عز وجل ، ختم ما قبلها ( الزخرف ) بالوعيد والتهديد ، وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد ، وذكر سبحانه هنا ، كقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ( في نهاية سورة الزخرف ) ، وهنا نظيره ، فيما حكى عن أخيه موسى عليهم الصلاة والسلام ، بقوله تعالى فدعا ربه ، أن هؤلاء قوم مجرمون ، وورد بفضلها أخبار " ، الألوسي .

أقوال بعض المفسّرين في آيات سورة الدخان :
( حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (6)
" يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم ، أنه أنزله في ليلة مباركة ، وهي ليلة القدر ، أمر حكيم ، أي محكم لا يُبدّل ولا يُغيّر ، ولهذا قال جل جلاله ، ( أمرا من عندنا ) ، أي جميع ما يكون ويُقدّره الله تعالى وما يوحيه ، فبأمره وإذنه وعلمه ، ( إنا كنا مرسلين ) أي إلى الناس رسولا يتلوا عليهم آيات الله مبينات " ، ابن كثير .

( رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (Cool
" أي إن كنتم من أهل الإيقان ، علمتم كونه سبحانه رب السماوات والأرض ، لأنه من أظهر اليقينيات دليلا ، وفي هذا الشرك تنزيل إيقانهم ، منزلة عدمه ، لظهور خلافه عليهم ، وهو مراد من قال : إنه من باب تنزيل العالم منزلة الجاهل ، لعدم جريه على موجب العلم ، قيل : ولا يصح أن يقال : إنهم نزلوا منزلة الشاكين ، لما كان قوله سبحانه بعد : بل هم في شك ، ولا أدري بأسا في أن يقال : إنهم نزلوا أولا كذلك ، ثم سجّل عليهم بالشك ، لأنهم وأن أقرّوا بأنه عز وجل ، رب السماوات والأرض ، لم ينفكّوا عن الشكّ لإلحادهم في صفاته ، وإشراكهم به تعالى شأنه " ، الألوسي .

( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
" بل هؤلاء المشركون ، ( في شك يلعبون ) أي قد جاءهم الحق اليقين ، وهم يشكّون فيه ، ويمترون ولا يصدقون به ، ثم قال عز وجل متوعدا لهم ومهدّدا ، ( فارتقب يوم تأتي السماء ) " ، ابن كثير .

" ( بل هم في شك يلعبون ) أي ليسوا على يقين ، فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار ، في قولهم إن الله خالقهم ، وإنما يقولونه لتقليد آبائهم ، من غير علم ، فهم في شكّ ، وإن توهموا أنهم مؤمنون ، فهم يلعبون في دينهم ، وقيل يلعبون ، يضيفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الافتراء والاستهزاء ، ويقال أعرض عن المواعظ لاعب ، وهو كالصبي الذي يلعب ، فيفعل ما لا يدري عاقبته " القرطبي .

" لا يقولون ما يقولون ، مما هو مطابق لنفي الأمر عن جدر وإذعان ، بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب ، وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم ، والالتفات عن خطابهم ، لفرط عنادهم وعدم التفاتهم ، والفاء في قوله تعالى : فارتقب لترتيب الارتقاب ، أو الأمر به على ما قبلها ، فإن كونهم في شك يلعبون ، مما يوجب ذلك ، أي فانتظر لهم ، يوم تأتي السماء بدخان مبين " ، الألوسي .

( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
" ارتقب معناه انتظر ، يا محمد بهؤلاء الكفار ، يوم تأتي السماء بدخان مبين ، قاله قتادة . وقيل معناه احفظ قولهم هذا ، لتشهد عليهم " ، القرطبي .

" يعني تعالى ذكره بقوله ( فارتقب ) ، فانتظر ، يا محمد بهؤلاء المشركين من قومك ، الذين ( هم في شك يلعبون ) ، ( يغشى الناس ) يقول يغشى أبصارهم ، من الجهد الذي يصيبهم ، ( هذا عذاب أليم ) يعني أنهم يقولون ، مما نالهم من ذلك الكرب والجهد ، هذا عذاب أليم ) " الطبري .

أقوال المفسّرين في الدخان :
تفسير ابن مسعود : عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ : " بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ ، فَقَالَ : يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ ، يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ ، فَفَزِعْنَا . فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا ، فَغَضِبَ ، فَجَلَسَ ، فَقَالَ : مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ ، فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ ، أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ لَا أَعْلَمُ ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ ) وَإِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا ، وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا ، فَادْعُ اللَّهَ ( فَقَرَأَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ - إِلَى قَوْلِهِ - عَائِدُونَ ) أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ ، إِذَا جَاءَ ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) يَوْمَ بَدْرٍ وَ ( لِزَامًا ) يَوْمَ بَدْرٍ ( الم غُلِبَتْ الرُّومُ ) إِلَى ( سَيَغْلِبُونَ ) وَالرُّومُ قَدْ مَضَى " . رواه البخاري وأخرجه مسلم والترمذي وأحمد .

رواية لابن مسعود : عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ ، قَالَ : " مَضَى خَمْسٌ الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ " . رواه البخاري وأخرجه مسلم والترمذي وأحمد .

حديث حذيفة : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ ، قَالَ : اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا ، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ ، فَقَالَ : ( مَا تَذَاكَرُونَ ؟ ) قَالُوا : نَذْكُرُ السَّاعَةَ ، قَالَ : ( إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ ، فَذَكَرَ الدُّخَانَ ، وَالدَّجَّالَ ، وَالدَّابَّةَ ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ ، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ ) رواه مسلم وأخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد .

قال ابن كثير " وقد وافق ابن مسعود ، رضي الله عنه ، على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف ، كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي ، والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار ابن جرير . وروى ابن جرير ، عن ربعي بن حراش قال سمعت حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أول الآيات الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ، ونار تخرج من قعر عدن أبين ، تسوق الناس إلى المحشر ، تقيل معهم إذا قالوا ، والدخان ، قال : حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله : وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ، يغشى الناس هذا عذاب أليم ) يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران ، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ) ، قال ابن جرير لو صحّ هذا الحديث لكان فاصلا ، وإنما لم أشهد له بالصحة .

وقال ابن جرير أيضا : عن أبي مالك الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن ربكم أنذركم ثلاثا ؛ الدخان ، يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر ، فينفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال ) ورواه الطبراني ، عن هاشم بن مرثد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به ، وهذا إسناد جيد .

وروى ابن جرير : عن عبد الله بن أبي مليكة ، قال : غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ، ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت ! قلت : لِمَ ؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت ) وهكذا رواه ابن أبي حاتم فذكره وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، حبر الأمة وترجمان القرآن ، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين ، رضي الله عنهم ، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما ، التي أوردوها ، مما فيه مقنع ، ودلالة ظاهرة ، على أن الدخان ، من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن ، قال الله تبارك وتعالى ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) أي بيّنٌ واضحٌ ، يراه كل أحد ، وعلى ما فسّر به ابن مسعود ، رضي الله عنه ، إنما هو خيال ، رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد ، وهكذا قوله تعالى ( يغشى الناس ) ، أي يتغشاهم ويعميهم ، ولو كان أمرا خياليا ، يخصّ أهل مكة المشركين ، لما قيل فيه يغشى الناس ، وقوله تعالى ( هذا عذاب أليم ) ، أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا " .

وقال القرطبي : " وفي الدخان أقوال ثلاثة ؛ الأول : أنه من أشراط الساعة ، لم يجئ بعد ، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما ، يملأ ما بين السماء والأرض ، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام ، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم ، فيثقب مسامعهم ، ويضيق أنفاسهم ، وهو من آثار جهنم يوم القيامة ، وممن قال إن الدخان لم يأت بعد ، علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن وابن أبي ملكية وغيرهم ؛ والثاني : أن الدخان ، هو ما أصاب قريشا من الجوع ، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا ، قاله ابن مسعود ؛ والثالث : إنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة ، قاله عبد الرحمن الأعرج " .

وقال الألوسي : " أي يوم تأتي بجدب ومجاعة ، فإن الجائع جدا ، يرَ بينه وبين السماء ، كهيئة الدخان ، وقد فسّر أبو عبيدة الدخان به ، والمراد باليوم مطلق الزمان ، أي ارتقب وعد الله ذلك اليوم ، وبالسماء جهة العلو ، وإسناد الإتيان بذلك إليهما ، من قبيل الإسناد إلى السبب ، لأنه يحصل بعدم إمطاره ، وتفسير الدخان بما فسرناه به ، مروي عن قتادة وأبي العالية والنخعي ، والضحاك ومجاهد ومقاتل ، وهو اختيار الفرّاء والزجّاج ، وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى ، وظاهره ، يدلّك ما في تاريخ ابن كثير ، على أن القصة ، كانت بمكة ، فالآية مكية ، وفي بعض الروايات ، أن قصة أبي سفيان ، كانت بعد الهجرة ، فلعلها وقعت مرتين ، وقد تقدّم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين ، وقال علي كرّم الله تعالى وجهه ، وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري ، وزيد بن علي والحسن ، أنه دخان يأتي من السماء ، قبل يوم القيامة ، يدخل في أسماع الكفرة ، حتى يكون رأس الواحد ، كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن كهيئة الزكام ، فالدخان على ظاهره ، والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان .

وحمل ما في الآية ، على ما يعم الدخانين ، لا يخفى حاله . هذا والأظهر ، حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولى ، لأنه أنسب بالسياق ، لما أنه في كفار قريش ، وبيان سوء حالهم . ( يغشى الناس ) أي يحيط بهم ، والمراد بهم كفار قريش ، ومن جعل الدخان ، ما هو من أشراط الساعة ، حمل ( الناس ) ، على من أدركه ذلك الوقت ، ومن جعل ذلك يوم القيامة ، حمل الناس على العموم ، والجملة ( يغشى الناس ) صفة أخرى للدخان ، وقوله تعالى هذا عذاب أليم ، وقيل : يجوز أن يكون هذا عذاب أليم ، إخبارا منه عز وجل ، تهويلا للأمر ، كما قال سبحانه وتعالى ، في قصة الذبيح ، إن هذا لهو البلاء المبين " .

( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
" أي يقول الكافرون ، إذا عاينوا عذاب الله وعقابه ، سائلين رفعه وكشفه عنهم ، ( ربنا اكشف عنا العذاب ) " ابن كثير .

" وقوله ( ربنا اكشف عنا العذاب ) يعني أن الكافرين الذين يصيبهم ذلك الجهد ، يضّرعون إلى ربهم ، بمسألتهم إياه كشف ذلك الجهد " ، الطبري .

" كما صرح به غير واحد من المفسرين ، وعدُ منهم بالأيمان ، إن كشفَ جلّ وعلا عنهم العذاب ، فكأنهم قالوا : ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا ، لكن عدلوا عنه " ، الألوسي .

( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
" يقول كيف لهم بالتذكر ، وقد أرسلنا إليهم رسولا ، بين الرسالة والنذارة ، ومع هذا تولّوا عنه ، وما وافقوه بل كذّبوه ، وقالوا مُعلَّم مجنون " ابن كثير .

" قال ابن عباس : أي يتعظون ، والله أبعدهم من الاتعاظ والتذكر ، بعد توليهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبهم إياه ، ( وقالوا مُعلَّم مجنون ) أي علّمه بشر ، أو علّمه الكهنة والشياطين ، ثم هو مجنون وليس برسول " ، القرطبي .

" يقول تعالى ذِكره ، من أي وجه لهؤلاء المشركين التذكّر ، من بعد نزول البلاء بهم ، وقد تولوا عن رسولنا ، حين جاءهم مدبرين عنه ، لا يتذكرون بما يتلى عليهم من كتابنا ، ولا يتعظون بما يعظهم به من حُججنا ، ويقولون إنما هو مجنون عُلّم هذا الكلام " الطبري .

" ( أنى لهم الذكرى ) نفي صدقهم في الوعد ، وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص ، أي كيف يتذكرون ، أو من أين يتذكرون بذلك ، ويفون بما وعدوه من الأيمان ، عند كشف العذاب عنهم ، وقد جاءهم رسول مبين ، أي والحال ، أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ، ما هو أعظم من ذلك في إيجابهم ، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات ، التي تخز لها صم الجبال ، أو مظهرا لهم مناهج الحق ، ( ثم تولوا عنه ) أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولم يقل ومجنون بالعطف لأن المقصود تعديد قبائحهم " ، الألوسي .

( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
" والاحتمال الثاني أن يكون المراد ، إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا ، بعد انعقاد أسبابه ، ووصوله إليكم ، وأنتم مستمرون ، فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم " ابن كثير .

" ( إنا كاشفوا العذاب ) يعني الضرّ النازل بهم ، يقول تعالى ذكره ، إنكم أيها المشركون ، إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم ، والضرّ الحالّ بكم ، ثم عدّتم في كفركم ونقضتم عهدكم ، الذي عاهدتم ربكم ، انتقمت منكم ، يوم أبطش بكم ، بطشتي الكبرى ، في عاجل الدنيا ، فأهلككم " ، الطبري .

" إنا كاشفوا العذاب قليلا ، وعد أن يكشف عنهم ذلك العذاب قليلا ، أي في زمان قليل ، ليعلم أنهم لا يفون بقولهم ، بل يعودون إلى الكفر ، بعد كشفه ، قاله ابن مسعود . ومن قال ، إن الدخان منتظر ، قال ، أشار بهذا إلى ما يكون ، من الفرجة بين آية وآية ، من آيات قيام الساعة ، ثم من قضى عليه بالكفر ، يستمر على كفره . ومن قال هذا في القيامة ، قال أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتهم إلى الكفر ، وقيل ، معنى إنكم عائدون إلينا ، أي مبعوثون بعد الموت " ، القرطبي .

" وقيل : المعنى وارتقب الدخان ، وارتقب يوم نبطش ، فحذف واو العطف ، كما تقول : اتق النار ، اتق العذاب ، والبطشة الكبرى في قول ابن مسعود ، يوم بدر ، وهو قول ابن عباس ، وأبي بن كعب ، ومجاهد والضحاك ، وقيل : عذاب جهنم يوم القيامة ، قاله الحسن وعكرمة وابن عباس أيضا ، واختاره الزجاج " ، القرطبي .

" أي إن كشفنا عنكم العذاب ، كشفا قليلا ، أو زمانا قليلا عدتم ، والمراد على ما قيل ، عائدون إلى الكفر ، وأنت تعلم أن عودهم إليه ، يقتضي إيمانهم ، وقد مر أنهم لم يؤمنوا ، وإنما وعدوا الإيمان ، فإما أن يكون وعْدُهم مُنزلا ، مَنزلة إيمانهم ، أو المراد عائدون إلى الثبات ، على الكفر أو على الإقرار والتصريح به . ( يوم نبطش ) يوم نسلّط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم ، وفي القاموس ، بطش به ، أخذه بالعنف والسطوة ، كأبطشه ، والبطش ، الأخذ الشديد في كل شيء " ، الألوسي .

" فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه ، بيوم بدر ، وهذا قول جماعة ، ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه ، على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، من رواية العوفي عنه ، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه ، وهو محتمل . والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة . وروى ابن جرير عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( قال ابن مسعود رضي الله عنه ، البطشة الكبرى يوم بدر ، وأنا أقول هي يوم القيامة ) ، وهذا إسناد صحيح عنه ، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة ، في أصحّ الروايتين عنه ، والله أعلم " ، ابن كثير .

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي ءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
" يقول تعالى ، ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين ، قوم فرعون ، وهم قبط مصر ، وجاءهم رسول كريم ، يعني موسى كليمه ، عليه الصلاة والسلام " ، ابن كثير .

" ( رسول كريم ) أي مُكرم معظّم عند الله عز وجل ، أو عند المؤمنين ، أو عنده تعالى وعندهم ، أو كريم في نفسه متصف بالخصال الحميدة والصفات الجليلة حسبا ونسبا ، وقال الراغب : الكرم إذا وصف به الإنسان ، فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة ، التي تظهر منه ، ولا يقال هو كريم ، حتى يظهر ذلك منه " ، الألوسي .

" ( وإني عذت بربي وربكم ) أي التجأت إليه تعالى ، وتوكلت عليه جل شأنه ( أن ترجمون ) ، من أن ترجموني ، أن تؤذوني ضربا أو شتما ، أو أن تقتلوني ، وروي هذا عن قتادة وجماعة ، قيل : لما قال : أن لا تعلوا على الله ، توعّدوه بالقتل ، فقال ذلك ، وفي البحر أن هذا ، كان قبل أن يخبره عز وجل بعجزهم عن رجمه بقوله ، ( وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ) ، فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ، ولا تتعرضوا لي بسوء ، فليس ذلك جزاء ، من يدعوكم إلى ما فيه فلاحكم ، فدعا ربه بعد أن أصرّوا على تكذيبه عليه السلام ، ( أن هؤلاء قوم مجرمون ) " ، الألوسي .

" وفيه اختصار كأنه قيل : أن هؤلاء مجرمون ، تناهى أمرهم في الكفر ، وأنت أعلم بهم ، فافعل بهم ما يستحقونه ، قيل : كان دعاؤه عليه السلام ، اللهم عجّل لهم ما يستحقون بإجرامهم ، وقيل : قوله ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ، إلى قوله ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، وإنما ذكر الله سبحانه السبب ، الذي استوجبوا به الهلاك ، ليُعلم منه دعاؤه والإجابة معا ، وإن دعاءه على يأس من أيمانهم ، وهذا من بليغ اختصارات الكتاب المعجز " ، الألوسي .

( … وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) … كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
" يقول تعالى ذكره ، كم ترك فرعون وقومه من القبط ، بعد مهلكهم ، وتغريق الله إياهم ، من بساتين وأشجار وعيون ومقام كريم ، يقول وموضع كانوا يقومونه شريف كريم . وقوله ( كذلك وأورثناها قوما آخرين ) يقول تعالى ذكره ، وأورثنا جناتهم وعيونهم وزروعهم ومقاماتهم ، وما كانوا فيه من النعمة قوما آخرين ، وقيل عُنيَ بالقوم الآخرين بنو إسرائيل " ، الطبري .

" ( كذلك وأورثناها قوما آخرين ) وهم بنو إسرائيل ، كما تقدم ، وقوله سبحانه وتعالى ( فما بكت عليهم السماء والأرض ) أي لم تكن لهم أعمال صالحة ، تصعد في أبواب السماء ، فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض ، بقاع عبدوا الله تعالى فيها ، فقدتهم ، فلهذا استحقوا أن لا يُنظروا ، ولا يُؤخروا ، لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم " ، ابن كثير .

" قال الزجاج : أي الأمر كذلك ، فيوقف على كذلك ، وقيل : إن الكاف في موضع نصب ، على تقدير نفعل فعلا كذلك ، بمن نريد إهلاكه ، وقال الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني ، وقيل : كذلك كان أمرهم ، فأهلكوا ، وأورثناها قوما آخرين ، يعني بني إسرائيل ، ملّكهم الله تعالى أرض مصر ، بعد أن كانوا فيها مستعبدين ، فصاروا لها وارثين لوصول ذلك إليهم ، كوصول الميراث ونظيره ، وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ، الآية " ، القرطبي .

( … وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَءَاتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) …
" يعني ما كانت القبط ، تفعل بهم بأمر فرعون ، من قتل الأبناء ، واستخدام النساء ، واستعبادهم إياهم ، وتكلفهم الأعمال الشاقة ، وقيل : أي أنجيناهم من العذاب ، ومن فرعون ، إنه كان عاليا من المسرفين ، ولقد اخترناهم يعني بني إسرائيل " ، القرطبي .

" واختلف أهل التأويل ، في ذلك البلاء ، فقال بعضهم ابتلاهم بنعَمِه عندهم ، وقال آخرون ، بل ابتلاهم بالرخاء والشدة ، وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال إن الله أخبر ، أنه آتى بني إسرائيل من الآيات ، ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم ، وقد يكون الابتلاء والاختبار بالرخاء ، ويكون بالشدة ، ولم يضع لنا دليلا ، من خبر ولا عقل ، أنه عنى بعض ذلك دون بعض ، وقد كان الله اختبرهم ، بالمعنيين كليهما جميعا " ، الطبري .

( … إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ ، أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، أَهْلَكْنَاهُمْ ، إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) …
" ( إن هؤلاء ) ، كفار قريش ، لأن الكلام فيهم ، وذكر قصة فرعون وقومه ، استطرادي للدلالة على أنهم مثلهم ، في الإصرار على الضلالة ، والإنذار على مثل ما حلّ بهم ، وفي اسم الإشارة (هؤلاء ) تحقير لهم ( ليقولون ) : ( إن هي إلا موتتنا الأولى ) أي ما العاقبة ونهاية الأمر ، إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الأولى ، ( وما نحن بمنشرين ) أي بمبعوثين بعدها " ، الألوسي .

" ( إن هؤلاء ليقولون ، إن هي إلا موتتنا الأولى ، وما نحن بمنشرين ، فأتوا بآبآئنا ، إن كنتم صادقين ) ، يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيل مشركي قريش ، لنبي الله صلى الله عليه وسلم ، إن هؤلاء المشركين من قومك ، يا محمد ، ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى ، التي نموتها ، وهي الموتة الأولى ، وما نحن بمنشرين بعد مماتنا ، ولا بمبعوثين ، تكذيبا منهم بالبعث والثواب والعقاب " ، الطبري .

" ( أهم خير أم قوم تبع ، والذين من قبلهم أهلكناهم ، إنهم كانوا مجرمين ) ، يقول تعالى ذكره ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، أهؤلاء المشركون يا محمد من قومك خير ، أم قوم تبع يعني تبعا الحميري ، وكانت عائشة تقول : لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا . وقوله ( والذين من قبلهم ) ، من الأمم الكافرة بربها ، يقول فليس هؤلاء بخير من أولئك ، فنصفح عنهم ولا نهلكهم ، وهم بالله كافرون ، كما كان الذين أهلكناهم ، من الأمم من قبلهم كفارا ، وقوله ( إنهم كانوا مجرمين ) ، إنما أهلكناهم لإجرامهم وكفرهم بربهم " ، الطبري .

" عن عائشة قالت : كان تبع رجلا صالحا ، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه " ، الألوسي .

" ( أهم خير أم قوم تبع ) هذا استفهام إنكار ، أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب ، إذ ليسوا خيرا من قوم تبع ، والأمم المهلكة ، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء " ، القرطبي .

" ( والذين من قبلهم ) أي قبل قوم تبع كعاد وثمود ، أو قبل قريش فهو تعميم ، بعد تخصيص ، ( أهلكناهم ) ، استئناف لبيان عاقبة أمرهم هدّد به كفار قريش ، ( إنهم كانوا مجرمين ) ، تعليل لإهلاكهم ، أي أهلكناهم ، بسبب كونهم مجرمين ، فليحذر كفار قريشا " ، الألوسي .

( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
" أي أنزلناه سهلا واضحا بينا جليا ، بلسانك الذي هو أفصح اللغات ، وأجلاها وأحلاها وأعلاها ، ( لعلهم يتذكرون ) أي يتفهّمون ويعلمون ، ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان ، من الناس ، من كَفرَ وخالفَ وعاندَ ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، مسليا له وواعدا له بالنصر ، ومتوعدا لمن كذّبه بالعطب والهلاك ، ( فارتقب ) أي انتظر ، ( إنهم مرتقبون ) أي فسيعلمون لمن ستكون النصرة ، والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة " ابن كثير .

" ( فإنما يسرناه بلسانك ، لعلهم يتذكرون ، فارتقب إنهم مرتقبون ) يقول تعالى ذكره ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنما سهّلنا قراءة هذا القرآن ، الذي أنزلناه إليك بلسانك ، ليتذكر هؤلاء المشركون ، الذين أرسلناك إليهم ، بعِبرِه وحُججه ، ويتعظوا بعظاته ، ويتفكروا في آياته ، إذا أنت تتلوه عليهم ، فيُنيبوا إلى طاعة ربهم ، ويذعنوا للحق عندما تبينهموه . وقوله ( فارتقب إنهم مرتقبون ) يقول تعالى ذكره ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فانتظر أنت يا محمد الفتح من ربك ، والنصر على هؤلاء المشركين بالله ، من قومك من قريش ، إنهم منتظرون ، عند أنفسهم قهرك وغلبتك ، بصدهم عما أتيتهم به من الحق ، من أراد قبوله واتباعك عليه " ، الطبري .

" ( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ) أي كي يفهموه ، ويتذكروا به ويعملوا بموجبه ، ( فارتقب ) ، أي وأن لم يتذكروا بما يحلّ بهم ، وهو تعميم بعد تخصيص ، بقوله تعالى ( فارتقب يوم تأتي السماء …حتى قوله … إنهم مرتقبون ) وقيل : معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكما ، وفي الآية من الوعد له ، صلى الله تعالى عليه وسلم ، ما لا يخفى " ، الألوسي .

سورة الدخان تُنذر قوما من أمة الإسلام كفروا بعد إيمانهم
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
هذا الوصف لم يكن بحال من الأحوال ، لمشركي قريش ، فهؤلاء كذّبوا وكفروا بما جاء به ، محمد عليه الصلاة والسلام ، جملة وتفصيلا . والشكّ في المعتقد عادة ، يتأتّى بعد الإيمان ، بوحي من شياطين الإنس والجنّ والهوى ، مما يدفع الإنسان في النهاية إلى الكفر . وأما اللعب ، جاء بمعنى الإعراض عما ينفع والاستهزاء به ، والانشغال بما لا ينفع ، بل وبما يضرّ ، وهي صفة يمتاز بها الصبية والأولاد الصغار ، لصغر عقولهم ، وقلة مداركهم ، وضيق أفقهم ، وعدم مقدرتهم ، على أخذ العبرة والعظة .

أما هؤلاء القوم من أمة محمد ، فهم في شك من أمر الله ، والشك هو انعدام اليقين ، بمعنى أنهم غير موقنين ، مما أخبر عنه في كتابه المبين ، الذي جاء به الرسول المبين ، بلسان عربي مبين ، من أمور الغيب ، وعلى رأسها انعدام اليقين بربوبية وألوهية الله ووحدانيته وإنكار البعث ، أي الشك بملكية الله للسماوات والأرض وما بينهما ، وقدرته على تصريف الأمور ، والشك بأمر البعث بعد الموت . لذلك فهم لا يتورعون ، عن اتخاذ دينهم هزوا ولعبا ، إذ لا بعث ولا حساب ولا عقاب يردعهم .

قال تعالى ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ، لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57 المائدة ) ، فالذين يوالون الذين اتخذوا دين الله هزوا ولعبا ، من اليهود والنصارى والكفار إجمالا ، وهم يُظهرون الإيمان ليسوا بمؤمنين ، فما بالك بمن يتخذ دين الإسلام ، هزوا ولعبا ويحاربه ، وهو ينتسب إليه .

وقال تعالى ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70 الأنعام ) ، وقال ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51 الأعراف ) .

فهؤلاء القوم يتصفون بأمرين :

الأول : أنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .

الثاني : أن شغلهم الشاغل هو الحياة الدنيا ، وأنهم يتخذون أمور دينهم ، مادة للهزء والسخرية واللهو .

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
نلاحظ أن المفسرين اختلفوا على ثلاثة مواقف ، فمنهم من وافق تفسير ابن مسعود ، ومنهم من وافق تفسير ابن عباس ، ومنهم من أخذ بالاحتمالين . وكلٌّ منهم أكمل تفسير السورة ، على ما ارتأى من صوابية اعتقاده ، بالنسبة لهذا الدخان . وأما من حيث زمن الوقوع ، فالاحتمال الأول ، يقول بأن الدخان والبطشة ، قد مضيا في مشركي قريش ، والاحتمال الثاني يقول بأنه قبل يوم القيامة ، والاحتمال الثالث يقول بأنه من أحداث يوم القيامة ، وللفصل في هذه الأقوال والمواقف ، سنستنبط صفات هذا الدخان من الآيات نفسها ، وصفات هؤلاء القوم وأفعالهم ، في نهاية الفصل ، بمعزل عن الروايات والتفسيرات السابقة ، فظاهر الآيات الكريمة ، يدل على أن ما ورد في الآيات ، هو نبأ دخان سيظهر في المستقبل ، والأقدر على بيان أمره ، هو من يعاصر ظهوره ، بعد اكتمال معالمه ، كما هي العادة ، في فهم وتفسير النبوءات المستقبلية .

رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
وهذا هو دعاء المعُرضين عن ذكر الله ، كما هي العادة ، من المسرفين والمشركين والكفار ، من الناس إجمالا ، كلما مسّتهم الضراء والبأساء ، سواء من أمة الإسلام أو من غيرها ، كما في قوله تعالى ( وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12 يونس ) .

ولاحظ ضمير المخاطب ( كم ) ، والذي يعود على المخاطبين بالقرآن ، في قوله تعالى ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ، فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54 النحل ) ، وقوله ( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67 الإسراء ) .

والأقرب والأظهر ، بالنظر في دعواهم تلك ، وإقرارهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم من الإيمان ، عند غشيان الدخان لهم ، أن يكون هؤلاء من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فسقوا عن دينهم مع كونهم مسلمين ، نفاقا على الأغلب ، وشركهم في الله جاء بعد الإيمان به . أما قريش فلم يكن هذا حالهم ، وما كان ليصدر منها هذا الدعاء ، فمنهم من أسلم ، ومنهم أصرّ على كفره ، أما النفاق فلم يعرفوه ، ولم يكن لهم فيه مصلحة ، ومن المعروف أن النفاق ، ظهر بعد انتشار الإسلام ، وهو ما حصل في المدينة المنورة ، لعدة غايات وأهمها وأخطرها ، هو سعيهم لمحاربة تعاليم الدين وهدم معالمه ، داخل المجتمعات الإسلامية ، وسورة الدخان مكية ، وحال هؤلاء ، كحال من قال فيهم سبحانه ، في مطلع سورة البقرة :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : ءَامَنَّا بِاللَّهِ ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (Cool يُخَادِعُونَ اللَّهَ ، وَالَّذِينَ ءَامَنُوا ، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16 البقرة ) .

حيث قال سبحانه ( ومن الناس ) ، ولم يحصر هذا السلوك بطائفة من الناس ، أو بزمن معين ، وهذا السلوك بدأ بالظهور ، بعدما قويت شوكة الإسلام في المدينة المنورة ، واستمر على مرّ العصور ، حتى يومنا هذا .

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
من أين لهؤلاء القوم الذكرى ؟! أي التوبة والإنابة إلى الله ، وقد سبق منهم الإعراض ، عما جاء به الرسول الكريم ، الذي لا يُشكّك في كرم أخلاقه ، أو حسبه أو نسبه أو لسانه العربي ، محمد عليه الصلاة والسلام ، بعد مجيئه والإيمان به ، والانتساب إلى دينه . وفضلا عن سبق الإعراض عن رسالته ، بعد احتضانها لمدة من الزمن ، تولّوا عنه وأعرضوا عما جاء به ، واتهموه بالتعلّم من الكهّان والشياطين ، بحوادث ميتافيزيقية ، وأضافوا إليه صفة الجنون ، إمعانا منهم ، في الإجرام والافتراء والاستهزاء ، فإن سلم من الكهانة ، لم يسلم من الجنون . فيردّ عليهم ربهم قولهم هذا ، بقوله لرسوله ( فَذَكِّرْ ، فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29 الطور ) ، ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4 القلم ) ، ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40 الحاقة )

وسُتفاجأ أخي المسلم ، أن المقصود بهذا القول ليسوا مشركي قريش ، بل مشركي ومنافقي هذا العصر من أمة الإسلام ، وأنهم قالوا هذا القول وأكثر ، في رسول الله عليه الصلاة والسلام ، تحت رعاية ودعم حكومي مادي ومعنوي ، وأن هذا الافتراء ذاته ، هو الذي أخبر عنه سبحانه ، وهو من أكبر الأسباب الموجبة لعقابهم .

إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
ويُخبر سبحانه بأنه سيرفع العذاب عنهم قليلا ، بعد انعقاد أسبابه ، بكشف الدخان ، بعد نيلهم قسطا من أذاه ، نزولا عند رغبتهم السابقة ، وإقرارهم بالإيمان عند غشيانه لهم ، فالدخان مجرد تحذير ، ولفت انتباه لهم ، بأن الله هو رب السموات والأرض ، وبأنه قادر على إماتتهم وإهلاكهم ، كما أمات آبائهم ، ولئلا تكن لهم حجّة ، بأنه لم يعطهم الفرصة للتوبة والإنابة ،. ومن ثم يٌقرّر سبحانه بأنهم سيعودون ، لما كانوا عليه ، من الشك واللعب ، وسيضيفون إليها التولي والإعراض والعصيان والاتهام لرسوله الكريم ، ليستوجبوا عن جدارة واستحقاق ، أن يبطش بهم رب العزة بطشته الكبرى .

قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (61 التوبة ) ، وقال ( الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57 الأحزاب ) .

يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
أما بطش رب العزة ، فهذا وصفه ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12 البروج ) . ونستطيع تصوّر طبيعة هذه البطشة ، من قوله تعالى في سورة القمر ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا ءَالَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40 القمر ) ، وتماروا بالنُذر ، أي كذّبوا إنذارات لوط عليه الصلاة والسلام ، وتحذيراته لهم ، وأكثروا الجدال والاستهزاء بها ومنها ، فبطش بهم ربهم ، وما وقع من قوم لوط ، هو ما وقع من هؤلاء ، بعد أن جاءهم هذا رسولهم الكريم ، نذيرا من غضب الله ، فغشيهم الدخان ، وستبغتهم البطشة الكبرى ، وهم ما زالوا يُمارون ويتمارون ، في شكٍ يلعبون ، من أمر هذا الرسول المبين ، وأمر هذا الكتاب المبين ، وأمر هذا الدخان المبين .

ـ وما نزل بقوم لوط نستخلصه من الآيات التالية :

( … إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ، جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا ، حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83 هود ) .

كان ذلك في الصباح الباكر ، حيث رُفعت قرية لوط عليه الصلاة والسلام بمن فيها ، إلى السماء ، وتقول بعض الروايات أن الملائكة في السماء الأولى سمعت نباح كلابهم ، ومن ثم قُلبت ، ورُميت من ذلك الارتفاع الشاهق إلى الأرض ، فأحدثت ذلك الجرف الجغرافي ، الممتد من على طول نهر الأردن ووادي عربة ، ومن ثم أُمطرت بالحجارة ، التي لا تزال ظاهرة ، إلى يومنا هذا ، بانغراسها في الطين المتحجّر ، في تلك المنطقة على سواحل البحر الميت ، وفي سفوح الجبال حوله . وخلاصة القول ، أن البطشة تعني خراب الديار وهلاك أهلها ، بغض النظر عن الوسيلة ، مشهد يحمل في ثناياه أبشع صور للانتقام الإلهي ، حين يوغل الناس بإصرار في الإجرام ، بحق الله وحق رسله الكرام ، دون وازع أو رادع ، ضاربين بإنذارات ربهم عُرض الحائط ، مستحقّين بذلك غضبا إلهيا عارما ، سيسكبه على رؤوسهم عاجلا أم آجلا .

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ … فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
ومفاد الآيات أعلاه ، هو أن حال هؤلاء القوم ، مع محمد الكريم الأمين المبين ، عليه الصلاة والسلام ، كحال فرعون وقومه مع موسى الكريم الأمين المبين ، عليه الصلاة والسلام ، وذلك نفيا لما قاله هؤلاء عنهما ، سواء من فرعون وقومه ، أو ممن أشرك وكفر من أمة محمد . ومن تشبيه الحال بالحال ، نستطيع التعرف على موقف هؤلاء القوم من محمد ، من خلال معرفة موقف فرعون وقومه من موسى ، الذي ورد بالتفصيل في القرآن الكريم ، حيث أن الآيات ، التي تصف موقف فرعون وقومه من موسى ورسالته ، تكاد تبين ما تحويه سورة الدخان ، من مقاصد إلهية ، تكتنفها الآيات الكريمة .

حال فرعون وقومه مع موسى :
ـ دعا موسى عليه الصلاة والسلام فرعون وقومه ، إلى تقوى الله ، فجادلوه واستهزءوا به ، وبما جاء به ، وأنكروا ربوبية الله ، واتهمه فرعون بالجنون ، وهدّده بالسجن ، إن اتّخذ إلها غيره ، فأراه موسى آيات ربه الكبرى ، فاتهمه بالسحر ، وببلوغه مرتبة عالية في علمه ، ليصبح كبيرا السحرة ، ونفّذ تهديده فيمن اتبعه وآمن به من السحرة .

( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) … فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) … قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) … قَالَ ءَامَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) … ( الشعراء ) .

ولهذا تشابهت لغة الخطاب وتشابهت الحجة في قول الرسولين الكريمين :

موسى : ( قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) … قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26 الشعراء )

محمد : ( … رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) … رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8 الدخان )

ـ فأنذرهم الله بعذابات ، من المألوفة للناس ، كالقحط والجوع ، مشعرا إياهم بقدرته على أخذهم ، لعلهم يرجعون ، ولكنهم ردّوا هذه الابتلاءات ، إلى " الوشّ النحس " ( باللهجة المصرية ) ، لموسى ومن معه ، ولم ينسبوها إلى الله . وأصرّوا على كفرهم ، فأرسل عليهم ما لم يألفوه ، كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين . ولكنهم لما وقع بهم العذاب وعاينوه ، وعدوا موسى بالإيمان ، في حال كُشف عنهم . ورُفع العذاب عنهم لأجل مسمى ، هم بالغوه ، وفور شعورهم بالرخاء ، نكثوا عهدهم وعادوا لما سبق ، فانتقم الله منهم ، لتكذيبهم لآيات الله وغفلتهم عنها .

( وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ، قَالُوا لَنَا هَذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ، يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ، أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَكِنَّ أَكْثَر



Bookmark and Share

ردود على "كتاب نهاية امريكا واسرائيل(تفسير سورة الدخان)"

أترك تعليقا