المعارضة السورية في عنق الزجاجة
المعارضة السورية في عنق الزجاجة
تشير الوقائع و التطورات السورية إلى فشل خطة القوى المعارضة في الداخل و الخارج للتصعيد الذي توعدت به قبل حلول شهر رمضان المبارك ، عبر دعوتها إلى تحويل أيام الصوم ميدانا للتصعيد ، و كالعادة فقد عوضت هذه القوى بالعمليات الأمنية التي نفذتها مؤخرا ، عجزها عن حشد الناس ، و عن تعديل مشهد التظاهر المحصور جغرافيا و سكانيا ، و المتراجع في حجمه واقعيا .
أولا هذه الحصيلة التي تولد خيبة واضحة لدى المعارضات السورية ، تثبت حدود قدرتها على التعبئة و التحريك رغم ما وظف لها من إمكانات جبارة إعلاميا و سياسيا و ماليا على الصعيدين الدولي و الإقليمي ، و كذلك بالرغم من توافر البيئة المناسبة لأنشطتها في الأوساط الاجتماعية التي تشكو اعراض التهميش و العوز خصوصا في الأرياف و المناطق الزراعية الفقيرة ، و هي بيئة يتم استثمار شكواها و نقمتها و أحيانا يتم استغلال حاجتها و اصطياد غرائزها بالإضافة لشراء الرعاع و تجنيدهم .
أما الشرائح الطامحة سياسيا التي تنادي بالإصلاح فهي تبدو على الأرض السورية متجهة نحو فرز بين المتورطين في إدارة آلة سياسية و تنفيذية تفوض أمرها للقوى الأجنبية و للوبيات الصهونية في الولايات المتحدة و اوروبا و في احسن الأحوال للجار التركي الطامع و بين العازفين عن متابعة الانخراط في تحركات المعارضة إثر انكشاف الأبعاد الدولية الإقليمية لما يجري من حول سوريا و عليها ، و بعدما ظهرت غابة محشوة بالسلاح و المال في اوكار الميليشيات التي يرعاها المعارضون و يقودها التكفيريون في بعض المناطق.
الواجهة السياسية المعارضة التي تضم العديد من المتطلعين لأدوار سياسية مقبلة ، تبدو وسط ذلك كله ، تائهة بين ارتباط بعضها الوثيق و متعدد الأوجه بالسفارتين الأميركية و الفرنسية ، المصممتين على سد سبل الخروج من الأزمة لتوسيع مساحة الاستثمار الممكن في فصولها و بين فرصة الانتقال إلى الشراكة من عتبة الحوار الذي يكاد يتحول فرصة ضيعها التعنت و الوهم طوال الأشهر الماضية و بفعل رضوخ معارضي الداخل لابتزاز التخوين و صداه في الخارج ممن شاركوا في مؤتمرات انطاليا و باريس و اسطنبول و لقاءات القاهرة و عمان.
ثانيا بينت أحداث الأسبوع الماضي ان الأزمة في سوريا تظهر واقعيا بوصفها نزاعا بين الدولة الوطنية السورية و تحالف دولي إقليمي تقوده الولايات المتحدة و قد انتدب هذا التحالف تركيا للمفاوضة باسمه مع القيادة السورية ، و في ذلك المشهد تعبير صريح عن ثمار ارتهان المعارضات السورية للخارج الذي يسعى إلى التدخل في الأزمة لتحقيق مصالحه الإقليمية في سوريا و ليس لتحقيق أي مكسب يخص الشعب السوري .
التحالف الدولي الإقليمي باع قادة المعارضات السورية اوهاما عن السيناريوهات العسكرية و الأمنية و عن الخطط الموضوعة في واشنطن و اسطنبول و منعهم جميعا من الحوار مع السلطات السورية ، لأن المكسب الإقليمي هو اولوية ذلك التحالف الراغب في استثمار الأزمة لحسابه و تحويل المعارضين في احسن احوالهم إلى شريحة رقيقة من العملاء الذين سيطالب لهم الأميركيون و الأتراك بأدوار مستقبلية في السياسة إذا حققوا غايتهم من المساومات مع القيادة السورية تحت ضغط موجات التمرد المسلح و الفوضى و الإرهاب التي يثيرها حراك المعارضين و تولدها غوغاؤهم على الأرض.
فالولايات المتحدة تجد في التطورات الأخيرة فرصتها الذهبية لاختبار إمكانية العودة إلى إملاءات تعديل السلوك السوري أي فك التحالف مع إيران و قطع العلاقات السورية بقوى المقاومة اللبنانية و الفلسطينية بينما تركيا تبحث عن موقع نفوذ سياسي خاص في الداخل السوري مرتكزه الحجم الافتراضي لتنظيم الأخوان و هي صاحبة مصلحة في تحجيم الفاعلية السورية المؤهلة للعب دور مقرر في شرق ما بعد الانكفاء الأميركي عن العراق و بالنسبة لهذين اللاعبين الكبيرين ليست قوى المعارضات سوى ادوات ليس إلا .
و بقدر ما يمثل استنزاف الفكرة القومية العربية التي تجسدها الدولة الوطنية السورية حاجة لتحقيق غاية تعديل السلوك التي يتبناها الأميركيون فإنه يساعد على تحقق الهدف التركي أيضا ، أما المعارضات السورية فقد اوكلت إليها مهمة تسهيل ذلك الاستنزاف بالتهشيم المعنوي و التصعيد الميداني على السواء و هو ما تقوم به إعلاميا و أمنيا .
ثالثا تناقلت وسائل الإعلام العربية و الدولية معلومات و تقارير عن اتساع رقعة الإحباط في صفوف المعارضات السورية و تحدث بعضها عن خلاف استجد داخل صفوف المنسقيات التي تضم الناشطين على الأرض حول فكرة العمل المسلح ، فقد ظهر جناح يتبنى الدعوة للمجاهرة بحمل السلاح و الانخراط في عمليات عسكرية ضد السلطات و القوى الأمنية السورية و هو يمثل ثقلا كبيرا في تكوين المنسقيات و يحظى بدعم واضح من المخابرات الأجنبية و هذا الجناح يطالب بتبني الميليشيات و المجموعات المنظمة التي تظهر على الأرض بدل التنصل منها للحفاظ على الصورة الافتراضية للاحتجاج السلمي الذي لم يعد موجودا من أسابيع طويلة .
طبعا سيدور السؤال عن الخيار الذي يمكن أن يسلكه المعترضون على السلاح غير الحوار الذي تستمر الدولة الوطنية في فتح أبوابه على مشراعيها و يقينا فإن الانتقال إلى المجاهرة بتنفيذ عمليات إرهابية هو الخطر الجدي الذي ينبغي التنبه له في سوريا بعد الفشل السياسي المدوي لخطة التخريب.
رابعا تتكشف هذه المعركة الكبرى التي تخوضها سوريا عن حقيقة كونها الفصل الأهم من الصراع على مستقبل الشرق ، بينما تسعى الولايات المتحدة لتأهيل تركيا بالشراكة مع إسرائيل للهيمنة على المنطقة بعد النيل من سوريا و إضعافها او إغراقها بالفوضى بهدف الانتقال للنيل من المقاومتين اللبنانية و الفلسطينية و تقليص مساحة الحضور افيراني في الشرق وخصوصا على خطوط الصراع العربي الصهيوني .
جميع المتدخلين و المتورطين في سوريا يتحدثون عن الإصلاح الذي ليس هدفا بذاته لأي منهم بل ينبغي النظر لما هو وراء الكلام عن الإصلاح .
المعادلة الوطنية السورية الراهنة هي كيفية إدارة حوار وطني تمهيدا لإجراء الإصلاحات التي تعزز الاستقلال الوطني و القدرات القومية لسوريا الحرة و المقاومة عبر توسيع الشراكة الشعبية في السلطة .
أما معادلة الخارج الذي تقوده الولايات المتحدة فهي كيفية إجراء تغييرات سياسية و هيكلية في بنى الدولة السورية لتصبح أضعف و غير مؤهلة للعب أي دور فاعل ينافس تركيا و إسرائيل بعد خروج الاحتلال الأميركي من العراق .
بين الحوار و الإرهاب و بين الاستقلال و الارتهان و بين المناعة الداخلية الحاضنة لقوة سوريا الإقليمية و الفوضى التي تقوض أي دور سوري في المستقبل القريب يعلق المعارضون السوريون في عنق زجاجة عنوانها الاختيار على المفترق بين الحسابات الوطنية و المشيئة الاستعمارية .
ردود على "المعارضة السورية في عنق الزجاجة"
أترك تعليقا