لم يكتف بالتجرّؤ على نقد التراث الديني الإسلامي برمّته بل نادى إلى هدمه ورميه في سلة المهملات. لقد ظلّ طول حياته محرّضا العرب على التنصّل الجذريّ من كلّ ما هو إسلاميّ.
والأجمل والأطرف أنّ عبد الله القصيمي لم يأت من خارج المنظومة الدينية بل كان عالما دينيا يتمتع بمكانة مرموقة في
سلم الفكر الإسلاميّ، إذ ألّف قبل اهتدائه إلى العقلانية مؤلّفات كثيرة دافع فيها عن المذهب الوهّابي اللاعقلاني ذاته.
وككلّ المفكرين الأصلاء لم يتوان لحظة واحدة في الانصياع لنداء عقله حينما ناداه، وكانت له الشجاعة الكافية للانقلاب على ما كان يراه صحيحا
بعدما دقّق فيه النظر واكتشف قدامته وتهافته، بل ورأى فيه عقبة كأداة أمام أيّ تقدّم عربيّ، وكابحا للعقل الحرّ،
إذ ردّ جمود الفكر العربيّ إلى خضوعه الصبيانيّ إلى مقولات الدين الإسلامي وأوهام فقهائه في الماضي والحاضر.
"احتلال الإله لعقولنا أفدح أنواع الاحتلال"، هكذا عنْون صاحبنا القصيمي فصلا كاملا من كتابه "هذا الكون ما ضميره؟".
وعلى عكس معظم دعاة الحداثة والعقلانية
الآخرين في مغرب العرب ومشرقهم، لم يتخفَ ابن الصحراء وراء أيّ قناع، وأعلن إلحاده الصارم غير المهادن
في مؤلّفات غدت اليوم من كلاسيكيات الإلحاد العربي المعاصر. ورغم الداء الأصوليّ وجماهيره الهائجة وعداء
السلطات المتاجرة بالدين، بقي المفكّر صامدا على نهجه العقلاني إلى آخر لحظة من حياته، فلم يفعل مثل هؤلاء
الكتاب الذين نادوا بالتقدّم والتحرّر طول حياتهم ثمّ انتهوا مؤمنين راضخين تائبين كغيرهم من عباد الله الصالحين!
ولئن حاولت بعض الدوائر الإسلامية والمواقع المتواطئة معها شراء بعض الشهادات بعد رحيله،
وتزوير تاريخه الفكريّ، لاسترجاعه عنوة وبقوّة البترودولارات إلى "الصراط المستقيم"، فلن تفلح أبدا لأن لا
أحد يستطيع اليوم اغتيال مؤلفات المفكر، بل لا يزال يعاد طبعها وبات الاطلاع على بعضها مجانا على الشبكة العنكبوتية.
كتب مؤلفاته بأناقة تسر القلوب التي لم يقض عليها الفقه بعد وتقنع العقول التي لم تلوثها الشريعة. فبداية من "كيف ضل
المسلمون؟ (1940)" ومرورا بـ "هذه هي الأغلال (1946)" و"صحراء بلا أبعاد " و"أيها العقل من رآك (1967)؟ ووصولا
إلى "هذا العالم ما ضميره؟" و"العرب ظاهرة صوتية (1977)" بدت أطروحته ناصعة لا لبس ولا لفّ فيها ولا دوران :
لا وجود لما يسمّى الله والإسلام سبب أساسيّ في تخلّف العرب. وإذ كان وجود الله أو عدمه لا يهمّ -وإن
كان العلم مع القصيمي في أغلبه- فمن الصعوبة أن يختلف إنسان عاقل معه في سبب تخلّف العرب عن الركب.
ولئن كانت مواقف المتدينين والإسلاميين من الرجل بديهية، فإنّ التساؤل المشروع يبقى متعلقا حول صمت
أغلبية مثقفي جيله حيال تجربته، ومحاولة أقلّية محسوبة على الحداثة التقليل من قيمته الفكرية والأدبية والإنسانية.
كما حاول البعض الآخر تفسير "ظاهرة القصيمي" بدل محاولة الاقتراب النقدي من فكر القصيمي، أو على
الأقلّ الاعتراف بشجاعته الفلسفية، واعتباره الناطق العقلاني باسمهم إن لم تسمح لهم ظروفهم بالقول والبوح.
وإذ كان معاصرا لمحمد أركون ومالك شبل وعبد الوهاب المؤدب،
دعاة الإسلام المتنوّر في فرنسا، المتخصصين شبه الحصريين في الفكر الإسلامي في نظر الإعلام
الفرنسي المخاتل ، فإنهم لا يذكرون القصيمي بالخير ولا بالشرّ، كأنه لم يأت إلى هذا العالم قط، هو الذي نشر
بعض كتبه بالعربية هناك في عقر دارهم هروبا من الرقيب الإسلامي ! ألم يخف ثلاثتهم مفكرا من الطراز الثقيل
خوفا من أن يهدم ما يعتاشون منه في الغرب : تقديم إسلام افتراضيّ، متسامح مع الآخر ومتصالح مع العصر!
إنه لمن الجرم أن يتجاهل مثقفون عرب رجلا بقامة القصيمي، لا أحد مثله يستحقّ صفة "الفيلسوف" في القرن العشرين العربي،
إذ هو الوحيد الذي زعزع وبقوّة، المنظومة الإيديولوجية الإسلامية المستحكمة في رقاب الناس من مهدهم إلى لحدهم،
ولم تكن ضربات مطرقته فلسفية عميقة فحسب بل وأدبية ممتعة أيضا. تعدّ شذراته من أعمق وألطف وألذّ ما كُتب من شذرات،
وكثيرا ما تذكّر بشذرات نيتشه وسيوران وغيرهما من فطاحل هذا النوع من الكتابة، ولولا الحصار الإعلامي وظلم
الترجمة وخوف دور النشر الكبيرة في الغرب على مصالحها في الدول البتروظلامية لكان للقصيمي اليوم شأن آخر.
ومع ذلك يرى أدونيس أنّ القصيمي مجرد صارخ، يقول كلّ شيء
ولا يقول شيئا، يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا، إنّه الوجه والقفا، يضيف من تنازل ذات يوم في القاهرة تنازلا كليا عن
عقلانيته إذ صرّح : أتحدّى أيّ شخص يأتيني بكلمة واحدة كتبتها ضدّ الإسلام. وعن السؤال الغبيّ : أتشهد بالشهادتين؟
أجاب مستسلما للشعبوية السائدة، ومستميلا للغوغائيين والدهماء : نعم لا إله إلا الله محمد رسول الله عشرات المرات!
أمّا حسين مروة فلم ير في القصيمي سوى ذلك الرجل المريض الذي جاءت أفكاره نتيجة لعدد من الضغوط النفسية والفكرية العنيفة التي شكلت في
النهاية أزمة، ويذهب حتى إلى الإشفاق على المفكّر السعودي قائلا : "إذا لم نسمّها عقدة''. لو كان بإمكان كلّ ذي عقدة
أن يبدع ''الإنسان يعصي .. لهذا يصنع الحضارات" أو "العالم ليس عقلا''!".. لتمنّيت أن يكون كلّ المفكرين العرب
مُعقّدين بإحكام. ولكن مع الأسف لا تعطي العقد نفس النتائج كما يبيّن المفكر جورج طرابيشي في "المرض بالغرب،
التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي". وهو الكتاب الذي مدّد فيه عبد الله القصيمي أيضا على سرير التحليل.
وإن لم تطل الجلسة مع المُعالَج، فقد خرج المُحلِّل بنتيجة مفادها
أن "عبد الله القصيمي يبني روايته البنوية على الكراهية، ولكن رأس حربة هذه الكراهية ليس موجها هذه المرة
إلى الأخ الدخيل المزاحم للأصيل على ثدي الأم، بل ضدّ الأب، ومن موقع ما يسمّيه التحليل النفسي بالعدوانية الشرجية".
ويشرح لنا طرابيشي حالة القصيمي في هامش الصفحة الموالية كما يلي : تقترن الكراهية الأبوية عند القصيمي بنزعة
إلحادية حادّة وسافرة واستفزازية لا نقع على مثيل لها في كل الخطاب العربي، ولا حتى في كل الفكر العربي قديمه وحديثه،
ولا نجد ما يضارعها إلا في الآداب الأجنبية، وعلى سبيل المثال المركيز دي ساد". ويلخّص جورج طرابيشي لاعقلانية
القصيمي في فقرة موالية كاتبا : "ولكن هذه النزعة الإلحادية، المتعمدة تدنيس القدسيات، لا تصدر عن نظر عقلي بقدر ما يحكمها
موقف نفسيّ وبقدر ما تعكس تثبيتا وجدانيا سلبيا، ومن نمط جنسيّ مثليّ وشرجيّ كما كان سيقول فرويد، على الأب." (1)
ويمكن الإشارة هنا إلى التداخل بين النظر الفكري والموقف النفسي وصعوبة الفصل بينهما، فنيتشه مثلا كان مجموعة من
المواقف الذاتية وليس نظرا عقليا بحتا. وربما أجمل الأشياء هي التي يوحي بها الجنون ويكتبها العقل كما يقول أندري جيد!
ومهما كانت التفسيرات لحالة القصيمي، يبقى مفكّرا عقلانيا كبيرا قام بدوره النقدي بنزاهة وشجاعة، فأهل مكة أدرى بشعابها فالرجل
ليس إسلاموفوبيًا إذا استعملنا كلمة هذه الأيام المغرضة، إذ اطلع الرجل على حقيقة الإسلام عن قرب كما اطلع اسبينوزا
على اليهودية وتخلى عنها، وكما سبقهما إلى ذلك كثير من رجال الدين الذين ألحدوا بعد إيمان وعلى رأسهم القس ميلييه (2).
وبغضّ النظر عن كل ما قيل ويقال عن القصيمي، يبقى
ما تركه من مؤلفات هو الأهمّ والأبقى. ولكن لماذا لا يحاول القوم إيجاد تفسيرات لإيمان الأغلبية ويتعبون أنفسهم في تفسير
إلحاد الأفراد، فكأنّ الإيمان هو القاعدة والإلحاد الاستثناء! ليست الكثرة من أمارات الحقّ، كما يقول القاضي عبد الجبار،
ولا القلة من علامات الباطل. فماذا يبقى من مفكّر إن لم يفكّر مستقلا عن العادات الذهنية المسيطرة على ثقافته وبديهياتها؟
وهل هو مفكر أصلا من يتحاشى إغضاب الرأي العام؟ وما فائدة مفكر جاء إلى العالم وذهب دون أن يزعج أحدا؟
الهوامش:
1) جورج طرابيشي،المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي، دار بترا ورابطة العقلانيين العرب، ص69 ، 2005
2) -------