يندفع العرب حثيثًا صوب الثورة المعلوماتية, ويبذلون في ذلك جهودًا لا تتوقف عند حد, لكن اندفاعتهم تتجه في كثير من الأحيان صوب ضعف المناعة الحضاري, والانكشاف الأمني, والاستنزاف المالي, والفوضى التنموية.
يقف وراء ذلك (عقل معلوماتي) عربي يعاني من أزمة متعددة الأوجه, تبدأ بكونه عقلاً غارقًا في التفاصيل وشديد الانبهار بالطرفيات والتقنيات, وبعيدًا عن الرؤى الجامعة, وتنتهي بكونه عقلاً لا يقبل بسهولة الإبداع الفردي, لكنه في الوقت نفسه يتحسس مسدساته حينما يأتي الحديث عن قيم العمل المعلوماتي الجماعي.
ليس هذا إفراطًا في التشاؤم أو نظرة عبثية يائسة للمستقبل, فنحن كعرب لدينا – ولاشك – نجاحات عدة وراءها عقول تضاهي ما يحدث في العالم, لكنها إما نجاحات فردية أو جزئية أو قطرية لا تعبّر عن حال العقل العربي المعلوماتي العام, ومن ثم فإن ما نسوقه هنا مرجعه ضرورة الحذر والحرص من مخاطر الفجوة بين الثورة المعلوماتية والعقل المعلوماتي العربي الراهن في حالته العامة, وهي فجوة لا يمكن قياسها بمعايير امتلاك الحاسبات وخطوط الهاتف وقواعد البيانات, ولكن تقاس بمعايير أخرى تتعلق بمناهج التفكير والقدرات المعرفية, ومهارات التعامل مع الجديد والمشاركة فيه, فجوة ما بين العنوان والضمور والتدفق والتكلس والشمول والتجزئة والسرعة والبطء.
ويمكننا الاصطدام بمظاهر هذه الفجوة بمجرد النظر إلى أوضاع العرب معلوماتيًا قياسًا بما يجري في العالم, وإلى الكيفية التي يجري من خلالها نشر وتسويق الثورة المعلوماتية داخل المجتمعات العربية, ويكفي – مثلاً – الإشارة إلى تواضع حجم المحتوى العربي الرقمي عالميًا قياسًا بدولة واحدة كبريطانيا, وتواضع فعالية خطط وتجارب بناء الصناعة الرابحة قياسًا بدولة واحدة كالهند, وتهافت دور الإبداع المحلي قياسًا بدولة نامية كالبرازيل. وما نخشاه هنا أن هذه الأزمة المتعددة الأوجه بداخل العقل المعلوماتي العربي قد تولد بداخل مجتمعاتنا العربية مع الوقت (بؤرًا اجتماعية), مهيأة لكي تتمدد فوقها ثقافات وعقول ومصالح مجتمعات أخرى وقوى عالمية, وشركات متعددة الجنسية, ويخشى كذلك من أن تتسع هذه البؤر تدريجيًا حتى تطبق على مجتمعاتنا, ولا تترك لها متنفسًا للنمو الذاتي والتجديد الحضاري والانطلاق المجتمعي المستقل, ولاشك أن مثل هذه الأوضاع تضع علينا جميعًا مسئوليات جمة, فيما يتعلق بتشريح حالة هذا العقل ومدى استعداده للتعامل مع الثورة المعلوماتية, وكيفية تطويره, والارتقاء به, ولذلك فما سنقوم به فيما يلي هو محاولة لا تستهدف وضع العلاج, ولكنها محاولة لتشخيص بعض جوانب الداء في العقل المعلوماتي العربي.
افتقاد الرؤى
جرف تيار المعلوماتية العاتي العقل العربي المعلوماتي ووضعه في قاع مجراه, فراح هذا العقل يتلقف فقط ما يتساقط من منتجات وأدوات هي أصغر التفاصيل التي يحملها هذا التيار, وتصل عادة لمستخدميها في أشكالها الأخيرة وأدوارها المرسومة, ولأن ما يتساقط غزير للغاية, فقد غرق العقل العربي في التفاصيل, وبعدت الشقة بينه وبين ما يجري على سطح التيار من معارف وأفكار ونظرات كلية ورؤى جامعة تضبط الحركة.
ويبدو العقل العربي وكأن الظروف لم تمهله حتى يتهيأ للتعامل مع هذا التيار الجارف فسيق إلى مقعده في قاع المجرى, حيث لا توجد إسهامات فكرية وعلمية مؤثرة ذات قيمة لهذا العقل في مسيرة الثورة المعلوماتية الإنسانية, اللهم إلا شذرات فردية من هنا وهناك لأناس هم في الأصل خارج سياق منظومة العقل العربي, إما بحكم المكان أو المكانة. وداخل الغالبية الساحقة من المجتمعات العربية هناك برامج وخطط وأفكار شديدة التشعب والانتشار, وجميعها يرفع شعار المعلوماتية بشكل أو بآخر, وتخصص له مئات الملايين من الدولارات, لكن بقدر قليل من الملاحظة تكتشف أن العقل المعلوماتي العربي – على مستوى النخبة وصنع القرار بوجه خاص – مهموم بنشر منتجات المعلوماتية من قبيل:
كم مواطنا حصل على حاسب?
كم بلغت نسبة انتشار الهاتف الثابت والمحمول?
كم أسرة لها اتصال بالإنترنت?
كم شخصا بات يمتلك مهارات البرمجة والعمل على الحاسب?
لكن هذا العقل ليس مهمومًا بالدرجة نفسها بالرؤية التي تقف وراء ذلك كله, وغير مكترث بأهمية بناء حال معرفية ذهنية تجعل (عقل المجتمع) يستوعب المعلوماتية ويسهم فيها ويهضم تعقيداتها, ومن هنا يندر – إن لم يكن غير موجود على الإطلاق – أن تجد عقلاً معلوماتيًا عربيًا تخلص من فيض التفاصيل وبدأ يستنشق هواء الفكر الرحب والرؤى الواسعة, ولذلك طفت آثار هذه الحالة في مناح عدة, منها – مثلا – أن مجموعة النخبة المعلوماتية في بلد ما تضع خطة طموحًا للتنمية المعلوماتية, لكن سرعان ما تتقوقع الخطة في دائرة مَن صنعوها, ويفاجأون بأن (روحها) لم تغادر حدودهم الضيقة ولم تسر في المجتمع من حولهم, وأنها قوبلت أحيانًا بالبرود, وأحيانًا بعدم الفهم, وفي أحيان ثالثة بعدم الوعي بها من الأصل, وذلك لأنها بنات أفكار عقل غارق في التفاصيل وفاقد للرؤى.
الهبوط لأسفل
نشر المعلوماتية في نسيج المجتمعات العربية – أو أي مجتمع آخر – يعني في النهاية تغيير العديد من القواعد السائدة فيه, لكي ينتقل من الورقة والقلم وتخزين المعلومات في الدواليب والدوسيهات, إلى العصر الرقمي وقواعد البيانات وشبكات المعلومات المفتوحة, وهذا بدوره يحتم تغييرًا فيما يوجد بالمجتمع من تراث حضاري وسلوكيات وطرق في التفكير وثقافة سائدة وأساليب في العمل, وتوازنات للقوى نشأت في كنفها مصالح ومكتسبات للبعض, وصراع بين أياد قوية تكبح حركة وانسياب المعلومات لأسباب متعددة, ولديها رؤاها الخاصة لكيفية إحداث تنمية معلوماتية, هذا علاوة على تشابك الفقر مع الغنى, والجهل مع العلم, والفهلوة مع النظام, وهنا ينشأ ما يمكن أن نطلق عليه العقبة (التكنو اجتماعية), ونعني بها المشكلات التي تبرز عندما يحدث التماس بين ما هو تكنولوجي من جهة, وما هو اجتماعي وسلوكي ومجتمعي من جهة أخرى. وهذه العقبة على وجه التحديد تتطلب وجود عقل معلوماتي رحب لا يقفز فوق الواقع الاجتماعي ولا يتجاهله, ولا يفرض المعلوماتية من قبل النخبة وصنّاع القرار, ويهبط بها على الجماهير العريضة وفئات المجتمع المختلفة قسرًا وقهرًا كوصفات ملزمة للتقدم, مفترضًا أن المجتمع وأفراده عبارة عن مجموعات من (الصناديق), التي يمكن تفكيكها وإعادة ترتيبها وفقًا لأولويات المعلوماتية ومقتضياتها. ومع الأسف فإن العقل المعلوماتي العربي لا يلقي بالاً للعقبة (التكنو اجتماعية), ويعمد في كثير من الأحيان للقفز على واقعه المجتمعي والاجتماعي, حاملاً لواء تفكيك وإعادة ترتيب الصناديق والهبوط القسري بالمعلوماتية من أعلى لأسفل, دونما اعتبار لإرادة وردود أفعال المجتمع, ومدى تهيئته أو تقبله للمعلوماتية وأشكالها المختلفة, وتشهد على ذلك سلسلة لا حصر لها من مشروعات ضخمة نفذت أو تنفذ في هذا البلد أو ذاك, ولم تراع:
- مستوى الوعي السليم بأهمية تكنولوجيا المعلومات داخل المجتمعات العربية.
- مدى حدّة التضارب في المصالح المباشرة أو غير المباشرة بين الوضع القائم, والأوضاع التي يرتبها نشر المعلوماتية داخل المجتمعات.
- مدى التخوف وعدم الثقة في المعلوماتية (تكنولوجيا المعلومات).
- التراث البيروقراطي الضارب في القدم وتأثيره على نشر المعلوماتية.
- جيل عنق الزجاجة الذي يتمترس فيه عتاة البيروقراطية والمعادون للتغيير والمرتبطون مصلحيًا بالأوضاع السائدة, ويمسك بتلابيب الكثير من مؤسسات وفئات المجتمع, ويفصل ما بين خطط النخبة وحماس الأجيال الجديدة.
- شيوع نموذج (الشخص – المنشأة) وليس (المنشأة – المؤسسة) وهو نموذج يتضاد على طول الخط مع الفكر المعلوماتي الذي هو فكر مؤسسي بالأساس.
هكذا يمضي العقل العربي المعلوماتي في خططه ومشروعاته بلا اكتراث أو اهتمام كاف بالعوامل السابقة, فبدأنا نشهد ظاهرة وصنع ما يمكن أن نطلق عليه (
ضحايا العقبة التكنو اجتماعية), وهي مشروعات في المعلوماتية قومية وقطرية وخاصة ومحلية, أنفق عليها الكثير, وحققت القليل أو توقفت وتلاشت.
عدم حرية المعلومات
يحرص الكثير من دعاة المعلوماتية العرب – من المفكرين والرسميين والعاملين بالقطاع الأكاديمي والخاص, الذين يشكلون الشريحة الأكبر من العقل المعلوماتي العربي – على الترويج للمعلوماتية بشدة داخل مجتمعاتهم, لكنهم في العادة لا يقتربون من قضية (حرية تداول وتدفق المعلومات) في هذه المجتمعات, على الرغم من كونها (مطلبًا حيويًا) لا يستقيم الحديث عن المعلوماتية دونه, فحرية تداول المعلومات هي (روح وقلب) المعلوماتية ومشروعاتها, وليس هناك من تفسير لهذا الوضع العقلي المأزوم سوى أن حال (فقر الحرية) في العالم العربي, قد انعكست بقوة على (عقله) المعلوماتي فجعلت منه عقلاً مصابًا بالفصام, يؤثر السلامة أحيانًا مهما كانت فداحة الثمن.
والحقيقة أن العلاقة الملتبسة المتناقضة بين دعاة المعلوماتية وقضية حرية تداول المعلومات تعد واحدة من أبرز وجوه الأزمة أو الفجوة في حال العقل العربي المعلوماتي, فهي تحمل في طياتها قدرًا من الانتهازية (الفكرية) التي تعلي من شأن ما هو مأمون ومضمون, وتبتعد عمّا هو شائك ومأمول, وإن شئنا الدقة هنا, لقلنا إن العقل المعلوماتي العربي يأنس للدعوة إلى نشر تكنولوجيا المعلومات التي هي في النهاية الأدوات أو الأوعية التي يمكن من خلالها جمع وتخزين ومعالجة وتحليل وإدارة المعلومات وتنظيمها وتدويرها, لكنه يأنف من الدعوة إلى نشر المعلومات التي هي المحتوى الذي تملأ به هذه الأدوات والأوعية, لكونها تتطلب قيم الحرية في التداول والتفكير والتعبير, وهي في العادة مناطق مربكة شائكة تجعل كثيرين من أصحاب السلطة وطلاب المنفعة يتحسسون مسدساتهم أو جيوبهم, خاصة في المجتمعات العربية التي لاتزال تعتقل المعلومات وتطلق الشائعات, وكلا الأمرين مناقضان لثورة المعلومات.
ويضعنا التباس العلاقة بين المعلوماتية وحرية تبادل المعلومات داخل العقل المعلوماتي العربي في منزلق خطر, فحينما لا تتوافر البيئة المجتمعية والقانونية والاقتصادية, التي تسمح بالتدفق السريع والسهل للمعلومات, ثم يقبل العقل المعلوماتي بذلك بانتهازية واضحة, فالنتيجة ستكون هزالاً شديدًا يصيب جميع مشروعات المعلوماتية ودعواتها, ويحولها مع الوقت إلى بنادق فارغة من الطلقات, بعبارة أخرى نحن لن نجني شيئًا من إنشاء شبكات معلومات. بينما لا توجد معلومات تدور بداخلها, ولن نحقق الكثير لو نشرنا الإنترنت في كل مكان, ثم لم نوفر للمواطنين حرية الوصول إلى معلومات ذات قيمة على الشبكة, تحقق لهم فوائد ومصالح مباشرة, ولن نحدث توظيفًا فعالاً لتكنولوجيا المعلومات في خدمة قضايا مجتمعاتنا, مالم تكن قطاعات ووحدات المجتمع المختلفة منفتحة على بعضها بعضًا, وتقبل بأن تتبادل فيما بينها المعلومات الضرورية بحرية وسلاسة وشفافية ووضوح, بعبارة أخرى لا يصح الحديث عن المعلوماتية دون الإصرار الواضح على الحرية.
التبعية لا الإبداع
دون أدنى مبالغة يمكننا القول إن العقل المعلوماتي العربي حتى الآن هو عقل تابع لا مبدع يرتاح للنقل عن الأجنبي, ويأنف من بذل الجهد في الإبداع المحلي, عقل مسود لا سيد يعيش رد الفعل ولا يبادر بالفعل, والأمر لا يحتاج إلى جهد كبير لإثباته, فالمؤشرات الدالة على ذلك بلا حصر ومنها على سبيل المثال:
- أن عدد براءات الاختراع الأصيلة والجادة التي خرجت من المنطقة العربية, ومن باحثين وعلماء عرب في مجال المعلوماتية تكاد تعد على الأصابع وأصحابها يكادون يكونون معروفين بالاسم.
- إن الغالبية الساحقة من الشركات والمؤسسات العربية التي تعمل في مجال المعلوماتية بأفرعه المختلفة وتدعي أنها تشكل قطاعات لتكنولوجيا المعلومات بالبلدان العربية, هي في الأغلب الأعم تتاجر في التكنولوجيا لا في تصنيعها وابتكارها, ويسيطر عليها عقل معلوماتي استيرادي, أقصى ما يفعله أن يدفع الشركات العربية تغرق في توريد وتهيئة وتعديل حزم البرمجيات والأجهزة والحلول التي تنتجها شركات البرمجيات العالمية الكبرى, لتناسب احتياجات الأطراف المحلية التي تحتاج إلى تكنولوجيا المعلومات أو يقوم (بالتخديم) على هذه البرمجيات والمنتجات بعد بيعها, ومن ثم فهي شركات ليست معدة من أجل الإبداع والإضافة ولكن من أجل الاستيراد والتجارة, ولذلك, فإن أغلب أنشطة الشركات بالمنطقة العربية لا يمكن تصنيفها على أنها تشكل صناعة بالمعنى العلمي والعملي المتعارف عليه عالميًا.
- لاتزال المنطقة العربية من المناطق الأقل اهتمامًا وتركيزًا على منهج المصادر المفتوحة, ذلك المنهج الذي يقوم على تقديم برمجيات وخدمات وأجهزة ومحتوى وبحث علمي في مجال المعلوماتية بشكل مفتوح يعتمد على فكرة الاستقلال عن الاحتكارات العالمية السائدة – مثل مايكروسوفت – وتقديم جهد إبداعي محلي بالمشاركة التطوعية بين فئات وأفراد المجتمع, بما يؤدي في النهاية إلى انخراط أكبر قطاعات ممكنة من المجتمع في العملية الإبداعية بحقل المعلوماتية.
فوضى تنموية
أبسط قواعد المنطق تفرض على من يريد التعامل مع المعلوماتية أن يطرح على نفسه منذ البداية مجموعة الأسئلة التالية: ماذا يريد من المعلوماتية? وما المشكلات التي يمكن التفكير في حلها بالمعلوماتية? وما الطموحات التي يمكن تحقيقها بمساعدة المعلوماتية? وما الوقت المناسب للحصول على ما يريد? وكيف يمكنه الحصول عليه? ومن أي جهة? هل يحصل عليه مرة واحدة? أم بالتدريج? هل لديه الميزانيات الكافية للحصول على ما يريد?
تمثل هذه الأسئلة طلقة البداية في ماراثون التعامل مع المعلوماتية وفق خطة مسبقة واضحة, سواء كانت الخطة متعلقة بشراء حاسب شخصي منزلي يستخدم في الألعاب والتسلية والتجوال بلا هدف على الإنترنت, أو متعلقة بتغيير بيئة العمل في مؤسسة عملاقة, أو إرساء القواعد اللازمة لبناء مجتمع معلومات على مستوى دولة بأكملها أو عدة مجتمعات تجمعها قومية واحدة كما هي الحال في العالم العربي, وهذا المنهج في التعامل مع المعلوماتية هو شيء أقرب إلى الثقافة داخل العقل المعلوماتي العام, تعمل كأرضية أو خلفية يتحرك فوقها نوع من الوعي التخطيطي بين الجميع, وتلقي بظلالها على كل سلوك أو قرار يتعلق بالاقتراب من عالم تكنولوجيا المعلومات, شراء وبيعًا واستخدامًا وتصنيعًا وتفكيرًا وخلافه, وتضفي مستوى من الرشد على كل هذه القرارات والسلوكيات, وتجعل الجميع لديه هدف واضح وقابل للتحقق ويلبي له احتياجات حقيقية. والحقيقة أن العقل المعلوماتي العربي يعاني من حالة فقر واضحة في ثقافة التخطيط للمعلومات, سواء على مستوى الأفراد والمنشآت والوزارات والهيئات الحكومية,وليس من قبيل المبالغة القول إن العديد من الجهات تنعدم لديها هذه الثقافة من الأساس مما يدفعها للفشل الذريع السريع في توظيف المعلوماتية.
وإذا نظرنا – مثلاً – للخطط التي تقدمت بها وفود الدول العربية للدورة الأولى من قمة المعلومات بجنيف والدورة الثانية بتونس, فسنجد الفقر التخطيطي صفة دائمة الظهور, وحينما تقرأ هذه الخطة أو تلك لا تجد جهدًا محترمًا في دراسة الواقع أو التعمق في استشراف المستقبل, مما يجعلنا نقول إننا أمام عقل معلوماتي, حينما يخطط للمعلوماتية فإنه يدور حول مسام المجتمع وهوامشه الخارجية, ولا ينفذ إلى أعماقه بالمستوى المطلوب, ولذلك فهو ينفذ في النهاية نوعًا من (الفوضى) التنموية المعلوماتية على وجه مجتمعاتنا.
افتقاد التقييم التكنولوجي
يتسم عالم المعلوماتية بالغزارة والتنوع والسرعة الواضحة, فيما يشهده من تطورات على صعيد الأفكار والرؤى والمنتجات والتكنولوجيات, وهذه السمة تجعله يحتاج إلى عقل يمتلك معارف ومهارات التقييم التكنولوجي, بعبارة أخرى عقل قادر دومًا على فرز وتصنيف وتقييم ما يعرض عليه من رؤى وتكنولوجيات ومنتجات معلوماتية, وفق قواعد ومعايير واضحة وبها من الكفاءة ما يضمن الاختيار السليم, في النهاية.
وبعض هذه المعايير – مثلاً – يعلي من قيمة الجودة والأصالة في السلعة – ويعتبرها الأساس عند التخطيط والتصميم والبناء والإنتاج والبيع والشراء, ولا يلتفت كثيرًا لقضية التكلفة, ويتوجه لفئة بعينها تراهن على الجودة العالية ولا تلقي بالاً لما ستدفعه, وبعضها الآخر يحاول الجمع ما بين الجودة والسعر الرخيص في معادلة يقبل بها قطاع أوسع من المستخدمين والمشترين, فيما توجد معايير ثالثة تعلي من قيمة السعر الرخيص ولا تلقي بالاً للجودة وتراهن على فكرة (الاسترخاص) بلا مبرر في كل شيء, وبالطبع فإن أي مجتمع من المجتمعات توجد به هذه الثقافات الثلاث بنسب متفاوتة, تجعل هناك نمطًا من الثلاثة يحقق درجة من الانتشار والغلبة.
وعادة ما يتم اختيار هذه المعايير طبقًا لطبيعة العقل المعلوماتي السائد لدى النخبة والجماهير العريضة على السواء وما يمتلكه من معارف ومهارات في مجال التقييم التكنولوجي, والحاصل عمليًا أن العقل المعلوماتي العربي يبدو كسولاً بعض الشيء في هذا الصدد, فهو أكثر ميلاً إلى حسم مسألة الاختيار وفقًا للمعيار المادي فقط مع إغفال معايير ومهارات التقييم الأخرى, ففي المجتمعات العربية الفقيرة التي تعاني الندرة نرى عقلاً من قيمة معيار (الأرخص هو أفضل) من باب تسيير الحال, وفي المجتمعات التي تتمتع بالوفرة نرى عقلاً يعلي من معيار (الأغلى هو الأفضل) من باب الوجاهة لا الكفاءة, وكلا الحلين سهل ولا يتطلب جهدًا في الاختيار, لكن هذا العقل قليلاً ما يحتفي بمعيار (الأجود هو الأفضل), الذي لا يرتبط كثيرًا بالندرة والوفرة المادية, ولكنه يتطلب دأبًا وجهدًا وإبداعًا وجدية حتى في مجرد الاختيار. وظلال هذا الكسل العقلي وارفة في كثير من فئات المجتمعات العربية, فعلى جانب المشترين, نجد ببعض البلدان قوانين تنظم المناقصات الحكومية ومشتريات الهيئات والمؤسسات العامة والخاصة من الأجهزة والبرمجيات والنظم, وتقضي بأن يتم إرساء المناقصات على من يقدم أرخص الأسعار, ولا تلقي بالاً لمستوى جودة السلعة المقدمة أو ملاءمتها من الناحية الفنية, وعلى جانب المنتجين والبائعين لا يختلف الوضع, إذ تتملك ثقافة (الاسترخاص) غالبية الشركات العاملة في حقل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, سواء التي تعمل في إنتاج البرمجيات أو تصميم وبناء وتشغيل نظم المعلومات, فنراها تنجرف تلقائيًا نحو كل ما هو رخيص, عند اختيارها للكوادر التي تعمل لديها, وعند البحث عن فكرة لبرنامج أو نظام, وعند وضع هذه الفكرة قيد التنفيذ العملي, وعند تقديم عروض للفوز بمناقصة, وعند وضع خطة للتسويق والمبيعات وغيرها.
قتل المواهب الفردية
ربما يكون العقل المعلوماتي العربي هو الأكثر تأثرًا بمركب التناقض المزمن الذي تعاني منه الكثير من المجتمعات العربية, والمتمثل في الجمع في وقت واحد بين ظاهرتي ضعف القدرة على العمل الجماعي, وتجاهل المبادرات الفردية, ولذلك, فهو عقل يترك الساحة مفتوحة لعلاقات عمل بين المجموعات والأفراد يمكن وصفها بأنها هلامية غير ثابتة الملامح, لا تخضع لقواعد بعينها ولا تؤسس عملاً جماعيًا يجمع القدرات المتفرقة ويوحد الجهود المتكررة في الجهات المختلفة وصولاً لأهداف مشتركة, ولا تصنع بيئة مناسبة لانطلاق المبادرات الفردية والقدرات الإبداعية الخلاقة ورعايتها حتى تؤتي ثمارها.
ولا يمكن لأي مراقب أو متابع لحالة هذا القطاع أن ينفي عن هذا المركب مشاركته في المسئولية عن ضعف أداء برامج التنمية المعلوماتية العربية, فالعقل المعلوماتي العربي يئن تحت ظاهرة عدم القدرة على العمل الجماعي التي رصدتها تحليلات عديدة تناولت أوضاع هذا المجال على مستوى الدولة الواحدة وفيما بين الدول العربية وبعضها البعض, كما رصدتها شهادات وآراء الخبراء بالشركات والقطاعات الأكاديمية, أما الشكوى من تجاهل المبادرات الفردية فتزخر بها صفحات الصحف وكواليس المؤسسات. واستسلام العقل المعلوماتي العربي لهذه الظاهرة, أدى إلى خسائر فادحة على الجانبين, فضعف القدرة على العمل الجماعي أشاع ظاهرة الجهود المتكررة والمشروعات المتشابهة بين المجتمعات العربية المختلفة, كما أصاب العديد من شركات البرمجيات وخدمات المعلومات والاتصالات العربية في مقتل, وجعلها غير قادرة على تنفيذ المشروعات, أو تقديم المنتجات التي تتطلب مشاركة أكثر من تخصص, ودفعها لأن تنجرف بلا وعي في تنفيذ مشروعات وإنتاج برمجيات متشابهة الوظائف والأهداف, والعمل وفق معايير تقنية غير موحدة.
أما تجاهل المبادرات الفردية – بل ومحاربتها في كثير من الأحيان – فقد فوّت على المجتمعات العربية وعلى الشركات أيضًا, الكثير من فرص الإنجاز الحقيقية, القائمة على الإبداع الفردي, والمبادرة الشخصية, كما أشاع الإحباط في دائرة أكبر, لأن كل تجربة أو مبادرة فردية تسقط تحت مطارق التجاهل وعدم الاهتمام, تقطع الطريق على عشرات من التجارب والمبادرات الأخرى التي كان يفكر أصحابها في التقدم بها والمضي في تنفيذها, بفعل عدوى الإحباط, وانكسار الروح وإيثار السلامة.
في النهاية, لن أضيف جديدًا لو قلت إن مظاهر أزمة أو فجوة العقل المعلوماتي العربي ليست مقطوعة الصلة بأزمات أو فجوات العقل العربي المتخصص أو العام, فهي نتاج لما يعتمل داخل المجتمعات العربية من فكر وتراث وسلوك وتعليم وتثقيف وإعلام وبحث علمي, ولذلك, فقد نلاحظ أن مظاهر أزمة العقل المعلوماتي العربي السابقة تحمل ظلالاً واضحة التكرار, وملامح ربما نكون جميعًا قد صادفناها في مجالات أخرى داخل المجتمعات العربية, لكن في النهاية تظل لها خصوصيتها المتفردة المستمدة من تفاعلها مع الواقع المعلوماتي المحلي والثورة المعلوماتية العالمية, وأعود للتأكيد على أن ما سبق لم يكن إفراطًا في التشاؤم, ولكنه مجرد محاولة لتشخيص بعض ملامح الأزمة في العقل المعلوماتي العربي, ومجرد اجتهاد قابل للمناقشة والقبول والرفض. ويسعدنا مقدمًا تلقي أي تعليقات أو مداخلات حوله