تركيا وسوريا: نهاية «العمق الاستراتيجي»!
تعرضت العلاقات التركية السورية لنكسة قوية في الآونة الأخيرة يمكن لها ان تعيد العلاقات بين البلدين الى المربع الأول الذي كان قائماً،
تعرضت العلاقات التركية السورية لنكسة قوية في الآونة الأخيرة يمكن لها ان تعيد العلاقات بين البلدين الى المربع الأول الذي كان قائماً، ليس فقط قبل وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة العام 2002، بل إلى ما قبل بداية مسيرة التحسن الأمني أساساً، والسياسي، بين دمشق وانقرة ابتداءً من نهاية العام 1998.
والاهتزاز الأخير ليس مجرد محطة عابرة بل يسجل بداية مرحلة جديدة وفقا لقواعد مختلفة من غير الممكن رسم ملامحها منذ الآن.
لم يكن التقارب التركي السوري بعد وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم مجرد انعكاس لرؤية جديدة وضع أسسها وزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو في كتابه الشهير»العمق الاستراتيجي» في العام 2001، بل أيضاً محصلة تقاطع مصالح اقليمية ناتجة أساساً عن التهديدات والتحديات التي شكلها الغزو الأميركي للعراق ومخاطر الفتن المذهبية والعرقية والتقسيمية التي رافقته، وانتهت إليه فعلياً، ومخاطر وجود قوات الدولة الأعظم في العالم على حدود سوريا وتركيا.
انطلقت تركيا في انفتاحها على سوريا في اطار انفتاحها على كل محيطاتها الاقليمية من البلقان الى القوقاز، ومن روسيا الى شمال أفريقيا، وفقاً لسياسة تعدّد الأبعاد. ولكن في اطار هذه السياسة أولت تركيا «العمق الاستراتيجي الجغرافي والتاريخي والحضاري» اهمية خاصة والعنوان الأهم لهذا العمق هو العالم العربي.
وضمن المشرق العربي كانت سوريا تحتل مكانة الصدارة في محاولة تركيا ترجمة استراتيجيتها الجديدة خصوصاً ان لها مع سوريا حدوداً تتجاوز الـ 800 كيلومتر، وتشكل البوابة «العربية» الوحيدة لتركيا الى العالم العربي، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار ان بوابة العراق مع تركيا وفقاً لخريطة العراق الجديدة لم تعد عربية بل كردية.
تقاطعت المصالح فكانت التقاربات التدريجية بين انقرة ودمشق التي بدأت أيضاً تتخذ طابعاً شخصياً بين الرئيس السوري بشار الأسد والثلاثي التركي: عبد الله غول ورجب طيب اردوغان واحمد داود أوغلو.
وقد ساهمت تركيا في تخفيف الضغوط عن سوريا التي باتت تستطيع تأمين خاصرتها الشمالية من التهديدات التركية التي تكررت سابقاً. كما وقفت تركيا الى جانب سوريا في ظل التهديدات ومحاولات العزل بعد غزو الأميركيين للعراق وتهديدات وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول الشهيرة، كما بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري وتوجيه أصابع الاتهام لسوريا في هذا الموضوع.
فتحت سوريا في المقابل أبوابها لتركيا بالجملة. وكان لذلك أهمية قصوى بل حاسمة في إدخال «التركي» الى كل بيت عربي. وأهمية سوريا مضاعفة في هذه النقطة حيث ان الايديولوجيا البعثية، التي تعكس النزعة القومية العربية المتشددة، والتي شن عليها داود أوغلو في كتابه هجوماً شديداً، تجاوزت موروثاتها السلبية ضد صورة تركيا العثمانية والأطلسية والمتحالفة مع اسرائيل، واتخذت مواقف جريئة لجهة «تبييض» صورة تركيا السابقة وبالتالي إدخالها الى كل بيت عربي.
وبعدما كانت صورة تركيا لدى سوريا ومعظم العرب على امتداد عقود القرن العشرين هي «أخوة التراب»، باتت كل المسلسلات التركية المدبلجة تتم باللهجة السورية دون غيرها، وقد جاءت بعد نجاح «باب الحارة»، حيث يمكن القول إنه لو تمت دبلجة المسلسلات التركية بلهجة اخرى غير السورية، المصرية أو الخليجية على سبيل المثال، لما شهدت هذا النجاح الكبير(برغم أن معظم هذه المسلسلات سطحي وسخيف ولا يستحقّ كل هذا الاهتمام فضلاً عن انه لا يعكس الواقع التركي الحقيقي باعتراف الأتراك أنفسهم).
قام السوريون بدور مهم على كل الأصعدة في «إعادة إنتاج» صورة تركيا الجديدة، ومنحوها بعد توقف عشر سنوات «شرف» ان تكون الوسيطة في المفاوضات بين سوريا واسرائيل. وفي وقت كانت اسرائيل ترفض استئناف الوساطة التركية بعد عدوان غزة، كانت سوريا ترفض اية وساطة غير الوساطة التركية.
ومع أن مشكلة المياه لم تحلّ بين البلدين، وظلت سوريا البلد الأكثر تضرراً من المشاريع التركية على الفرات تحديداً، فإن السوريين اتبعوا استراتيجية عدم تحويل هذا الخلاف الى مشكلة، ولم يجعلوها مادة خلافية يحملونها الى الجامعة العربية كما كان يحدث سابقاً، بل إن الرئيس بشار الأسد تجاوب في احدى المرات، وقبل فترة ليست ببعيدة، مع طلب لأردوغان، وأعطى تركيا مياهاً اضافية من مياه العاصي برغم الحاجة ترجمةً لمرحلة الصداقة الجديدة.حتى مسألة الإسكندرون، العزيزة على الفكر القومي العربي، خرجت نهائياً من الأدبيات السورية من التداول، بل كان هناك اعتراف ضمني بـ«تركية اللواء السليب» من خلال التوقيع على اتفاقيات تجارية تتضمن الاشارة الى الحدود الدولية لتركيا المعترف به دولياً من جانب الأمم المتحدة، والتي تضع «اللواء» ضمن حدود الجمهورية التركية.
وعلى الصعيد الأمني تعاونت سوريا الى الحد الأقصى الممكن لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني ليس فقط داخل سوريا بل حتى داخل لبنان.
كسرت سوريا جدار العداء النفسي لصورة تركيا الموروثة، وأمكن لتركيا أن تدخل إلى المنطقة العربية والوجدان العربي والثقافة العربية على حصان ابيض بل مجنّح أيضاً.
وفي السياسة كان النجاح التركي الأبرز في سياسات الانفتاح وفي ترجمة استراتيجية «العمق الاستراتيجي» مع سوريا بالذات. وبات داود أوغلو يرى حلمه في منطقة اقليمية خالية من الحدود - التي وصفها مع اردوغان بأنها مصطنعة - واقعاً وحقيقة في الحالة السورية تحديداً. وما فشلت تركيا في تحقيقه مع الاتحاد الاوروبي جسّدته على ارض الواقع مع سوريا من خلال إلغاء تأشيرات الدخول وفتح الحدود ورفع الحواجز الجمركية واقامة مجلس تعاون استراتيجي أعلى برغم عدم التكافؤ بين إمكانات الاقتصاد التركي الكبيرة والاقتصاد السوري المتواضعة. في حين أن عدم التكافؤ بين اقتصادين هو الذي لا يزال يحول دون إقرار اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين تركيا والعراق في البرلمان العراقي. وكانت رغبة القيادة السورية في المضي قدماً من أجل التواصل مع دول الجوار، ولا سيما تركيا، تتقدم على أي اعتبارات أخرى.
لكن مع بدء الثورات العربية، ووصول حركات الاحتجاج الى سوريا، كان المشهد بين البلدين مختلفاً. واجهت تركيا سابقاً ارتباكاً وازدواجية في المعايير مع الحراكات العربية السابقة لكن سوريا حالة مختلفة. سوريا تختلف عن الجميع بالنسبة لتركيا ليس فقط لأهميتها القصوى في نجاح إستراتيجية «العمق الاستراتيجي»، وتباهي تركيا بها، بل أيضاً لأن البنية الاجتماعية المذهبية والاتنية لسوريا مشابهة للبنية الموجودة في تركيا. بل أكثر من ذلك ان تركيا تختزن من عوامل التفجير الداخلي، وشهدته أكثر من سوريا، التي بالكاد مرت بحوادث محدودة كان لها طابع سياسي اكثر من اي شيء آخر، لا بل يفتخر السوريون بأن النزعة الوطنية لديهم تتقدم اي نزعة دينية او مذهبية او اتنية.
عندما بدأت الاضطرابات في سوريا كانت المواقف التركية على النحو التالي:
1- تركيا مع التغيير والإصلاح الذي تراه حتمياً.
2- التعامل بسلمية مع المتظاهرين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمفكرين وإلغاء حال الطوارئ وإقرار التعددية السياسية لتحقيق التحول الديموقراطي.
3- الأفضل ان يكون التغيير بقيادة الأسد، وهذا وحده يمنع الانفجار الكبير ويحقق الاستقرار.
وفي هذا السياق ارسلت تركيا وفوداً متتالية لتبحث مع الأسد كيفية تحقيق ذلك.
لا شك في ان الاحتجاجات والاضطرابات في سوريا تعكس وجود ازمة وطنية كبيرة يتطلب علاجها الكثير من الشجاعة والرؤية الاستشرافية بحيث لا يمكن الاستمرار بذهنية تقليدية ومؤسسات غير قادرة حتى لو أرادت ترجمة الاصلاح واقعاً. لذا كانت المبادرة التركية في المساعدة عبر إيفاد خبراء في التنمية والاصلاح وعلى أعلى المستويات، وألا تكون المعالجة امنية فقط او من باب الشعارات غير القابلة للتنفيذ، وبالتالي المراوحة المفتوحة على استمرار اسباب جانب من المشكلة.
لكن هذا لا يعفي تركيا ولا يبرر لها مطلقاً مجموعة من المواقف والسلوكيات التي أثارت علامات استفهام متعددة، وأوصلت العلاقات الى مرحلة من التوتر والاهتزاز التي ان استمرت هكذا ستعيدها الى نقطة الصفر.
لم تنتظر وسائل الاعلام التركية اتضاح الموقف في سوريا، فبادرت إلى حملة مفتوحة لا تزال مستمرة حتى الآن ضد الأسد شخصيا، عبر تصويره على انه الدكتاتور والسفاح الذي يشبه معمر القذافي. وما يفاقم علامات الدهشة ان وسائل الاعلام القريبة جداً من حزب العدالة والتنمية، مثل صحف «ستار» و«تركيا» و«يني شفق»، وتلك التابعة لرجل الدين التركي المتواجد في أميركا فتح الله غولين، مثل «زمان»، كانت الأكثر شراسة في هذه الحملة، ومنذ اللحظة الأولى، فبادر العديد من الكتاب الإسلاميين، الذين كانوا يدعون الى وحدة تركيا وسوريا، إلى المواقف الأكثر تطرفا في حملة التشويه غير المسبوقة في صورة من غير الممكن فهمها.
وبرر أردوغان اهتمامه المفتوح بالوضع في سوريا على اعتبار ان الشأن السوري هو شأن داخلي تركي. اذا كان من حق تركيا ان تقلق لوضع في دولة جارة غير ان هناك حدودا للعلاقات بين الدول مهما بلغت الثقة بينها والقلق التركي لا يبرر مطلقا:
أ- يومية المواقف التركية ومن كل المسؤولين حول سوريا بحيث بدت تدخلا في الشأن الداخلي لسوريا، وبما يتجاوز غيرة الأخوة والجيران والأصدقاء، حيث كان يمكن ان يكون التواصل خلف الكواليس مع تمرير رسائل علنية من وقت لآخر، ولكن ليس بشكل يومي فاقع.
ب- نبرة المواقف الرسمية التركية التي اتسمت بلغة استعلائية لا تليق لا بالعلاقة بين مسؤولين رسميين، ولا حتى بين أصدقاء. وبدت تركيا كما لو أنها وصية على سوريا، كما كانت وصية على مصر حسني مبارك وليبيا معمر القذافي.
ولعل الشعور، الوهمي، بوجود فائض قوة لدى الأتراك هو الذي جعلهم يتصرفون على هذا الأساس الذي يمكن بسهولة أن يُعكس ليكون الأتراك هم الذين يتلقون «النصائح» و «الدروس» بشأن كيفية حل مشكلاتهم الاتنية والمذهبية وغيرها المزمنة والتي عمرها من عمر الجمهورية، بل بعضها من عمر السلطنة العثمانية.
ويلفت هنا تحذير الصحافي التركي المعروف جنكيز تشاندار في صحيفة «راديكال» قبل أيام من أنه اذا استمر حزب العدالة والتنمية في حمل ذهنية إنكار وجود قضية كردية في تركيا الى ما بعد الانتخابات النيابية في 12 حزيران المقبل «فإننا سنكون امام تكرار المشهد اليمني والسوري... في تركيا». ونلفت هنا من جانبنا الى التزام المسؤولين الاتراك الصمت إزاء خطوة دمشق منح الجنسية السورية لعشرات الآلاف من المواطنين الأكراد في سوريا.
ومع ذلك كان يمكن لكل هذه «الأخطاء» أن تبدو «صغيرة» أمام الأخطاء المثيرة و«العميقة»، ومنها استضافة تركيا المعارضة السورية، أولاً في المؤتمر الصحافي الشهير في اسطنبول لمراقب الاخوان المسلمين في سوريا محمد رياض الشقفة، وثانياً في مؤتمر في اسطنبول ايضاً للمعارضة السورية مجتمعة. ويرى بعض المسؤولين الاتراك ان هذا يدخل في باب حرية الإعلام والحركة في تركيا تماماً كما تحصل هذه الامور للمعارضات العربية في لندن او باريس. ولكن يسهو عن بال الأتراك ان بريطانيا أو فرنسا ليستا جارتين مباشرتين لتركيا، وأن المعايير التي تحكم علاقات بريطانيا وفرنسا مع سوريا ليست ذاتها التي تحكم علاقات تركيا مع سوريا.
وقد مثلت هذه الاستضافة «خطأ تكتيكياً» كانت له تداعيات تمس أسس العلاقات بين البلدين. فكما تنظر تركيا الى حزب العمال الكردستاني على أنه إرهابي كذلك تصنف سوريا حركة الاخوان المسلمين.
شكل الاحتضان التركي للمعارضة السورية وحركة الاخوان المسلمين مسّاً بحساسية سورية داخلية عميقة، وتدخلاً مباشراً بالشأن السوري الداخلي، تماماً كما لو تبادر سوريا مثلا الى استضافة مسؤولي حزب العمال الكردستاني في دمشق ليعلنوا مواقف معادية لتركيا، فما الذي كان سيكون عليه الموقف التركي؟ لسنا بحاجة إلى إجابة ففي، العام 1998 كادت تركيا تشن حرباً على سوريا بسبب وجود عبدالله اوجالان فيها.
وتعدى «التلاعب» التركي بالتوازنات والحساسيات السورية الداخلية من خلال الغمز العلني من قناة التمايز السني العلوي في سوريا عندما أشار أردوغان إلى أهمية «علوية» الأسد و«سنّية» زوجته واعتبرها السوريون إشارة غير بريئة وتحريضاً.
كما أن المسؤولين الاتراك يكررون كثيراً، ويومياً الخشية من الفتنة السنية – العلوية، ومن تقسيم سوريا وتفتيتها، كما ورد مراراً في تصريحات اردوغان وآخرها تصريحه في مسقط رأسه «ريزه» السبت الماضي اثناء مهرجان انتخابي له، بحيث بدت التحذيرات اليومية من وقوع الفتن والتقسيم كما لو انها حثّ وحضّ على وقوعها، في حين ان الأمور ليست مطروحة بهذا الشكل في سوريا لا من قبل النظام ولا من قبل المعارضة.
كذلك كانت الإثارات الإعلامية التركية عن استكمال الاستعدادات على الحدود التركية السورية، ولا سيما في انطاكية وماردين، لمواجهة موجات نازحين محتملة من سوريا، ولم تكن هناك بعد أية مظاهر لمثل هذا الاحتمال، كما لو انها تحريض للسوريين على النزوح واستخدام النازحين ورقة ضد النظام في سوريا، وإظهار النظام أنه لا يكتفي بقتل المواطنين بل يهجّرهم. وحتى الآن، وبرغم مضي أكثر من شهر ونصف على بدء الاضطرابات في سوريا، لا تزال الخيم التي أعدّها الهلال الأحمر التركي فارغة تنتظر من يرتادها.لا شك في أن هناك مشكلة كبيرة في سوريا تتعلق بضروة الإصلاح، لكن هذه المشكلة في النهاية تخصّ السوريين، وهي شأن داخلي مهما كانت الظروف، لأن الخوف مبرر ومشروع من أن يكون اعتبار اردوغان الأزمة في سوريا «شأناً داخلياً تركياً» ذريعة للتدخل الفعلي في الشأن الداخلي السوري وليس المساعدة على إيجاد حل موضوعي للأزمة، وهذا يفتح بدعة جديدة، بل قواعد جديدة، في العلاقات بين الدول بحيث لا يمكن لتركيا ايضاً أن تعفي نفسها من تدخل الآخرين في شؤونها على اعتبار ان ما يجري في تركيا يمكن اعتباره أيضاً «شأناً داخلياً» لسوريا والعراق وحكومة كردستان العراق واليونان وروسيا وإيران وبلغاريا وأرمينيا وجورجيا وقبرص اليونانية وهلم جرا. وفي النهاية فإن الذي يقرر مستقبل الشعب السوري هم السوريون أنفسهم وليس السفراء والقناصل ولا العواصم القريبة او البعيدة.
كل هذا، من جهة أخرى، لا يبرر للأتراك ايضاً ان يتجاهلوا ان هناك «حيزاً» لهيبة الدولة، اي دولة، في التعامل مع ما تعتبره خطراً عليها أو «مؤامرة». وفي الحالة السورية لا يخفى على الأتراك أن في جانب من حركات الاحتجاج في سوريا استهدافاً للموقع والدور السوريين المتمثل في مواجهة اسرائيل والداعم لحركات المقاومة في لبنان وحماس والمتحالف مع ايران في المنطقة والمعارض لسياسات الهيمنة والتدخلات الخارجية ولا سيما الولايات المتحدة. وبالتالي فإن المواقف التركية السلبية والمنتقدة للأسد، والحاضنة لحركة الاخوان المسلمين، والمهددة باتخاذ مواقف اذا تعذّر الاصلاح في سوريا، تصب كلها في اتجاه إضعاف الدور السوري وموقع سوريا الممانع، خصوصاً أن قسماً من أراضيها لا يزال تحت الاحتلال، من دون أن يعني هذا الكلام تشكيكاً بوطنية اي جهة سورية مهما كانت انتماءاتها الاتنية او المذهبية او السياسية.
والخطورة الكبرى الأخرى، هنا، على تركيا، انها تعرّض علاقاتها وكل استراتيجيتها «العميقة» للانكسار، وعلى كل الأصعدة، ليس فقط مع سوريا بل مع كل المحور المذكور من طهران الى بيروت مروراً ببغداد.
تواجه تركيا في الحالة السورية امتحاناً دقيقاً في سياستها الخارجية يختلف عن كل امتحاناتها السابقة مع الدول العربية الأخرى. وتطرح المواقف التركية الملتبسة من سوريا تساؤلات عن دوافع هذه المواقف.
تتعدد التفسيرات ومنها:
1- ان تركيا تخشى بالفعل من تفاقم الوضع في سوريا وتحوله الى حرب اهلية ومذهبية واتنية ما يفتح باب تركيا على «جهنم» جديدة. لذلك هي تسعى الى نزع فتيل الانفجار الكبير في سوريا من خلال الإصلاح بقيادة الاسد ضمانة لاستمرار الاستقرار ومنعاً لتأثير ذلك على الوضع في تركيا. ومن هذه الزاوية ترى تركيا ان تكرار مواقفها وتحذيراتها وإملاءاتها بل حتى استضافة المعارضة السورية يأتي من باب الضغوط على النظام السوري للمباشرة الجدية في الإصلاح، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن. ولكن هنا نشير الى ان اوساطاً في حزب العدالة والتنمية اعادت التعاطف مع الإخوان المسلمين وانتقاد تصدي النظام في سوريا بالقوة للمتظاهرين إلى حسابات داخلية تتعلق برغبة الحزب كسب المزيد من أصوات التيارات الاسلامية المعادية لسوريا والمتحالفة مع الاخوان المسلمين في الانتخابات النيابية التي ستجري في 12 حزيران المقبل. وإذا كان في ذلك جانب من الصحة، ولا يمكن أن نفكر لحظة أنه كذلك، فإنه يعكس لا شك «خفّة» في مقاربة قضية حساسة مثل العلاقة مع سوريا وتعريضها للخطر من اجل حفنة أصوات من الناخبين.
2- التفسير الثاني، أن تركيا في مواقفها المتتابعة والضاغطة، ولا سيما مواقف الاعلام الاسلامي فيها، ليست منغلقة على التعاون مع أي نظام بديل قد ينشأ في سوريا في حال سقوط النظام الحالي. واحتضان تركيا حركة الاخوان المسلمين والتشهير اليومي لوسائل الاعلام الاسلامية المقربة من حزب العدالة والتنمية بـ«السلوك الدموي» للنظام السوري قد يفضي الى الاعتقاد باستعداد تركيا بل دعمها لنظام بديل يكون الإخوان المسلمون فيه الركيزة الأساسية. وهذا برأينا يشكل خطراً على مجمل سياسة تركيا في المنطقة والعالم الإسلامي، إذ سواء سقط النظام السوري ام لا، فإن صورة تركيا الحيادية من كل الأطراف السياسية والمذهبية في العالم العربي والاسلامي ستنكسر، بل ستفتح التفسيرات على وجود «أجندة سرية» لدى حزب العدالة والتنمية أساسها «عثمانية جديدة» ذات بعد مذهبي عكسه سلوك تركي ملتبس في العراق والآن تجاه سوريا. وهذا ينعكس سلباً على مجمل الحضور والدور التركي الذي كانت الحيادية أساس قوته. أما في حال سقوط النظام السوري وعدم قدرة المعارضة السورية على اقامة نظام بديل ودخول سوريا في مرحلة الفوضى والفتنة فإن مصالح تركيا ودورها وحضورها سيصبح في خبر كان. وفي جميع الحالات فإن تركيا، وخلافاً لما يتوهّم بعض الرؤوس الحامية فيها، ستكون الخاسرة.
3- اما التفسير الثالث، وقد لا يكون الأخير، من وراء المواقف التركية السلبية من سوريا فهو وقوع راسِمِي السياسة الخارجية في تركيا في «حسابات ورهانات غير دقيقة» في كيفية التعاطي مع الأحداث العربية عموماً، والسورية خصوصاً. ولعل وهم فائض القوة هو واحد من السلوكيات غير الواقعية التي لا يمكن لأحد ان يتوقع ان يسقط فيها مهندسو السياسة الخارجية التركية.
إن أخطر ما يمكن ان تسفر عنه هذه «الأخطاء العميقة» هو هذا الانكسار في العلاقة الاستراتيجة بين انقرة ودمشق (وحلفائها) والتي استغرقت جهوداً استثنائية لبنائها، واحتمالات العودة الى مرحلة الشكوك وانعدام الثقة والتوترات التي كانت سائدة قبل عشر سنوات.
لا يمكن التجاهل او التعامي عن ان صورة تركيا السابقة التي كانت في خط تصاعدي وايجابي منذ ثماني سنوات وحتى الآن قد أصابتها تشوّهات وندوب. كما أن هذه الأخطاء العميقة قد نهشت من قوة الدور التركي وحضوره. وما عاد ممكناً القول ان قواعد اللعبة بين تركيا والمنطقة ستبقى على حالها، ولم تعد الأسس التي قامت عليها الشراكة التركية - السورية صالحة للمرحلة المقبلة مهما كانت نتائج التطورات في سوريا.
من المؤسف فعلاً، أن يسقط مبدأ «المسافة الواحدة» من الجميع في أول امتحان جدي للسياسة الخارجية التركية، وألا تصمد نظرية «العمق الاستراتيجي» أكثر من سنوات معدودة، كأن التاريخ لا يريد أن تستقيم العلاقات العربية التركية عشــية الذكــرى المئوية لانهيارها، والتي بدأت شرارتها بالسياسات والممارسات و«الأخطاء العميقة» لجمعية الاتحاد والترقي بدءاً من العام 1911.محمد نور الدين ::: السفير