برزت المزيد من التأكيدات الواضحة التي تفيد بأن ما كان لافتاً للنظر في أحداث سوريا الأخيرة تمثل في الأداء السلوكي الذي انتهجته أجهزة الإعلام الأمريكية والأوروبية الغربية إضافة إلى بعض أجهزة الإعلام العربية الوثيقة الارتباط بخصوم سوريا الإقليميين والدوليين: فما هي طبيعة العملية الإعلامية التي حدثت وما هي تقنياتها وما هي أبعادها وتداعياتها. وهل سوف تشهد سوريا ومنطقة الشرق الأوسط المزيد من هذه الحملات الإعلامية؟
* مسرح المواجهات الإعلامية الجديدة: سوريا والشرق الأوسط
خلال فترة المواجهات السياسية الشرق أوسطية الأخيرة التي بدأت منذ شهر كانون الثاني (يناير) 2011 م الماضي في تونس، وامتدت عدواها إلى جميع مناطق الشرق الأوسط الأخرى، حيث انتهى بعضها، وبعضها الآخر ما زال مشتعلاً وعلى وجه الخصوص في اليمن والبحرين، انخرطت كافة أجهزة الإعلام المحلية والإقليمية والدولية في عمليات التغطية الإعلامية وتقديم التقارير والتحليلات، وما كان لافتاً للنظر ومثيراً للاهتمام هذه المرة تمثل في الآتي:
• إن حجم الاهتمام الإعلامي العالمي والدولي كان أكبر من حجم الاهتمام المحلي والإقليمي وعلى سبيل المثال لا الحصر، أفردت بي بي سي البريطانية، وتي في سانك الفرنسية، وسي إن إن الأمريكية، إضافةً إلى صحيفة نيويورك تايمز وصحيفة واشنطن بوست الأمريكيتان، ولوموند الفرنسية والغارديان البريطانية، ومجلة دير شبيغل الألمانية، وفورين بوليسي الأمريكية.
• بروز ظاهرة الاصطفافات الإعلامية على أساس خطوط الاصطفافات السياسية، بحيث بدا واضحاً أن الأجهزة الإعلامية أخذت مكانا بجانب أحد أطراف المواجهة.
هذا، وبسبب النفوذ الأمريكي والأوروبي الغربي الكبير على الوسائط الإعلامية، فقد تشكلت المذهبيات الإعلامية القائمة على مبدأ “الضربة الإعلامية الاستباقية”. وعلى أساس هذا المبدأ تنوعت أساليب الأداء السلوكي الإعلامي الخاص بكل واحدة، وشاهد الناس في سائر أنحاء العالم، أحدث أساليب صناعة الكراهية وزراعة البغضاء على معظم شاشات التلفزة الفضائية.
لم تكن سوريا استثناء في هذه العمليات، فقد بدا واضحاً أن أهمية سوريا ومكانتها المركزية الشرق أوسطية، قد جعلت منها بالضرورة هدفاً إعلامياً فائق الأهمية وشديد المركزية بالنسبة لأجهزة الإعلام الأمريكية والأوروبية الغربية، إضافة إلى بعض أجهزة الإعلام الشرق أوسطية المرتبطة بخصوم سوريا.
* أحداث درعا السورية: مقاربة البروفسور الكندي ميشيل خوسودوفيسكي
نشر الموقع الالكتروني الخاص بمركز دراسات العولمة الكندي مقاربة تحليلية قام بإعدادها البروفسور ميشيل خوسودوفيسكي، يمكن استعراضها على النحو الآتي:
• العنوان الرئيسي: التضليل الإعلامي: حركة الاحتجاجات في سوريا.
• العنوان الثانوي: تغطية الإعلام الغربي للأحداث في درعا.
• نماذج المقاربة: ركز البروفسور خوسودوفيسكي على التغطية الإعلامية التي قامت بها أربعة أطراف هي: وكالة الأسوشيتيد برس ـ صحيفة الغارديان البريطانية ـ الأخبار الوطنية الإسرائيلية ـ موقع يا لبنان.
هذا، وعلى أساس اعتبارات الهوية نلاحظ: وكالة الأسوشيتيد برس أمريكية الانتماء ـ صحيفة الغارديان بريطانية ترتبط بتيار المحافظين ـ الأخبار الوطنية الإسرائيلية وهي شبكة إخبارية تابعة للقناة التلفزيونية المرتبطة بتيار اليمين الصهيوني الديني وتقدم الأخبار باللغات: الإنجليزية ـ العبرية ـ الفرنسية ـ الإسبانية ـ والروسية، أما موقع يا لبنان فهو يتبع لجماعة “ثورة الأرز” اللبنانية، والتي برزت على خلفية أحداث اغتيال رفيق الحريري.
سعى البروفسور خوسودوفيسكي إلى بناء مقاربته من خلال التحليل المقارن لأداء هذه الأطراف الأربعة ، لأحداث درعا. من خلال الإجابة على السؤال القائل: كيف كان الأداء السلوكي لهذه أطراف الإعلامية على نفس الواقعة ـ وهي حادثة درعا السورية، وفي هذا الخصوص أشار البروفسور خوسودوفيسكي إلى الآتي:
• ما الذي فشلت تقارير وكالة الأسوشيتيد برس (الأمريكية) وصحيفة الغارديان (البريطانية) في الإشارة إليه؟ وفي هذا الخصوص نشير إلى أن الوكالة والصحيفة تفادتا عن عمد الإشارة إلى وقائع: مقتل رجال الشرطة على يد بعض المتظاهرين ـ استهداف وتدمير وحرق المنشآت المدنية على يد بعض المتظاهرين.
وإضافة لذلك، أشار البروفسور خوسودوفيسكي، إلى أن تفادي وكالة الأسوشيتيد برس وصحيفة الغارديان لذكر هذه الوقائع كان متعمداً ومدروساً والهدف منه تمثل في رغبة الوكالة والصحيفة لجهة القيام بتعزيز الرسالة الإعلامية المضللة التي سعت لبثها والتي مفادها التأكيد على أن المظاهرات كانت سلمية، ولم يكن يوجد بين المتظاهرين من يقومون بحرق وتدمير المنشآت وتنفيذ عمليات قتل رجال الشرطة.
• تقرير شبكة الأخبار الوطنية الإسرائيلية: أشارت إلى حادثة مقتل رجال الشرطة السورية ولكنها سعت من جانب آخر، وهو توظيف هذه الواقعة على أساس أنها تنطوي على العنف الطائفي، من خلال التطرق إلى المكونات الطائفية السورية، وتضخيم فرضية الاستهداف ضمن الفعل ورد الفعل الطائفي العنيف المتبادل، (الجمل: نشير هنا إلى أن إحدى القنوات الإعلامية العالمية أبرزت حواراً مع شخص “غامض” يقول بأنه من المصلين في المسجد العمري بدرعا وأنه لاحظ وجود شعارات إيرانية مكتوبة باللغة الفارسية داخل المسجد. ولاحظ وجوداً مكثفاً لعناصر حزب الله اللبناني داخل المسجد.)
• تقرير شبكة يا لبنان: سعت إلى التطرق إلى حادثة اغتيال رجال الشرطة بشكل مختلف تضمن الآتي: إسناد مصدر الخبر إلى وكالة شينخوا الصينية وذلك بما يدرأ عن شبكة يا لبنان شبهة الارتباط بمصادر الأخبار الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية الغربية، وإضافة لذلك، فقد ركز على نشر الخبر بصورة مختصرة وموجزة تضمنت استخدام الخبر كوسيلة دعم مساندة للتحليلات والتقارير الأخرى التي ظلت تنشرها شبكة يا لبنان حول أحداث درعا السورية، لجهة التأكيد على مزاعم تزايد الاحتجاجات و”تجريم” دمشق.
لم يسع البروفسور خوسودوفيسكي إلى صياغة نتائج المقاربة، واكتفى بترك الوقائع الإعلامية المتناقضة مع حقيقة الأحداث، والمتكاملة مع بعضها البعض لجهة بناء المشاهد المضللة تمارس حضورها القوي وتعبر عن نفسها، وإضافة لذلك، فقد سعى الفريق الإعلامي الخاص بمركز دراسات أبحاث العولمة الكندي، لجهة القيام بإعداد ورقة بحثية مختصرة حملت عنوان (الحقيقة، البروباغاندا، والتلاعب الإعلامي) تطرقت إلى مدى خطورة تداعيات سيطرة جماعات المصالح الأمريكية والأوروبية الغربية، والأفراد ذوي التوجهات المتحيزة على الوسائط الإعلامية، وأكدت الورقة على أن أحداث الشرق الأوسط الأخيرة قد كشفت عن مدى ضخامة حجم التضليل المعلوماتي والذي لم ينحصر هذه المرة في القنوات التلفزيونية والصحف والمجلات والوكالات الإعلامية، وإنما في المواقع الالكترونية الخاصة بمراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية، والتابعة للأفراد ومجموعات المدونين وشبكات التواصل عبر التويتر والفيسبوك.
* تقنيات التضليل الإعلامي:
تتدرج عمليات التضليل الإعلامي ضمن ما يطلق عليه خبراء الحرب النفسية تسمية عمليات الدعاية السوداء، والتي كما أشار بعض الخبراء والمحللين تقوم على أساس الاعتبارات الآتية:
• بناء القوام التراجيدي: تتضمن تحديد الخطوط والشروط الأساسية التي تلعب دوراً حاسماً في جعل السرديات أكثر تماسكاً وعدم قابلية للانكشاف أمام كل من يحاول التحري عن مصداقية سردياتها.
• توظيف المعاناة: تتضمن التركيز على تضخيم المقاربات التي تحمل الخصم المستهدف كامل المسؤولية عن المعاناة التي تواجه المدنيين الأبرياء.
• توظيف التباينات: تتضمن التركيز على استخدام عمليات التنميط الديني والطائفي والإثني والقبلي والثقافي، بما يساعد على صعود مشاعر الكراهية إزاء الآخر.
• استثمار التزوير: تتضمن الاستخدام المتزايد لفعاليات تزويد الوثائق والمستندات، سواء عن طريق المونتاج وإعادة المونتاج، والمواد والوثائق المزيفة، واستخدام شهود الزور. وما شابه ذلك.
تشير المعطيات الجارية إلى أن مكونات مربع (بناء القوام التراجيدي ـ توظيف المعاناة ـ توظيف التباينات ـ استثمار التزوير) أصبحت أكثر فعالية بسبب التطورات الجارية في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية.
توصف عملية التضليل الإعلامي بأنها عملية بث للمعلومات المغلوطة بما يؤدي إلى تحقيق الرغبة المسبقة بهدف توجيه الرأي العام في اتجاه محدد مسبقاً يخدم أغراض الطرف الذي قام بعملية التضليل. وما لم يعد خافياً على أحد بشهادة العديد من الخبراء الإعلاميين والنفسيين الأمريكيين والأوروبيين الغربيين نفسهم فقد شهدت أحداث منطقة الشرق الأوسط الأخيرة قدراً كبيراً من عمليات التضليل الإعلامي، وما هو مطروح أمام الإعلام العربي هو الاستفادة من الدروس والعبر والعمل على بناء خطاب إعلامي يتميز بالمصداقية على الأقل.